منذ ابصرت النور حتى اليوم, كم مرة دارت الارض حول الشمس؟ اظنها تجاوزت الأربعين مرة، ذلك العدد الذي يصف سنوات عمري لم يعد بعد الان يخيفني ولم يعد نذير رعب بدنوّ اجلي، فالغلام الذي  كنت ادخر ايامي ولياليّ لتحرس ظله قد اشتدّ عوده الان وصار رجلا.

ذلك الوليد الذي اختلط صراخ خروجه لهذا الكون مع صرخات الحزن التي رافقت خبر استشهاد والده الذي ما نفك يحلم برؤيته ولم تمنحه يد الجبروت فرصة نيل تلك الفرحة، طالته رصاصات زبانية البعث وهو يخرج من صلاة الجمعة لترديه مضرجا بطهر المبادئ النقية، ورغم وحشة يتم هذا الوليد وغربة نشوؤه دون والد وتحت كنف الطرف الأقل حيلة من الوالدين الا انه اصبح طفلا بشوشا سمح الملامح والمحيا وغدا لاحقا فتى مهذبا دمث الخلق يحمل اباء والده وعنفوانه مختلطة بالرحمة ولين الطرف التي حملها من صفاتي  وها هو اليوم شابا انيق اللسان والهيأة مرتديا روب تخرجه الاسود يزينه شارة ذهبية تحمل حروف اسمه مثلما كنت اراها في احلامي : (المهندس مازن مهدي راضي)، اراقب تلك الاحرف اللامعة بعيون تملاها دموع الرضا والطمأنينة، انا التي وضعت حبات الوقت في مطحنة السنوات لاستخرج عصارتها التي تتمثل امامي مدعاة للفخر.

اليوم سأنفض غبار السنوات وسأسعى جاهدة ان يكمل نصف دينه الذين كان يجتهد في اداء نصفه الاول من عبادات وفرائض، ولدي الذي كان رجلا منذ نعومة اضفاره وهو يعمل بعد اوقات الدراسة، اصبح اليوم قادرا على تكوين اسرة وادارتها، كنت قد يممت وجهتي صوب ابنة جارتنا التي كنت ارتاد ونسوة الحي منزلها كل ليلة جمعة لإداء ختمة الانعام وقراءة دعاء كميل، كانت الفتاة مثالا للعفة والوداعة وحسن الخلق، لم يكد المجلس ان ينتهي الا وكنت قد اخذت موثقا من امها ان يكون عقد القران في حضرة العباس بن علي (عليه السلام ) بعد عشرة ايام من هذا اليوم، كنت قد هممت بالمغادرة عندما استوقفتني عجوز ذات هيبة ووقار شديدين، يشعر من ينظرها لأول وهلة انها عاصرت احد الاوصياء والمعصومين، قالت  وهي تضع امامي منسأتها التي كانت تحملها بيد رسم الدهر عليها خارطة تغضنات تختزل العمر : كيف حالك يا ام وهب؟

-عليكم السلام يا حاجّة، انا ام مازن

تردد بإصرار وهي تشيح بوجهها الى الناحية الاخرى : هوني عليك يا ام وهب.

غادرت المنزل وانا العن ارذل العمر الذي يمحي الذاكرة ويذهب بلباب المرء ورجاحته .

كان قد مضى شهر على عقد قران قرة عيني عندما ارتدت منزل (كنتيّ) لقراءة وتأدية اعمالنا التي اضيف لها مؤخرا قراء دعاء ( اهل الثغور ) لنصرة الجيش والحشد الذي لبى نداء المرجعية وهب لنصرة الحق ودفع كيد الكفار عن الديار، وكان فلذة كبدي مع افواج الشباب التي آثرت مقارعة الباطل على الركون، لم تكن دموعي التي ذرفتها لتثنيه عن عزمه وصولته الذين عملت طول السنين لشدهما– وهكذا حاججني بيقين.

ودعته واتكلت على الله في اختزال المسافة وطمأنة النفس، وعلى دعائي وابتهالاتي في حفظه ورفاقه من كل سوء يرديه، ثم لم يكد المجلس ان ينفّض حتى لمحت تلك العينين التين كانت ترقبان خشوعي ودعائي، اقتربت العجوز ببطء شديد وقالت وهي تربت على كتفي : اذكري الله بنيتي ، اذكري الله يا ام وهب.

كانت نظرتها المملوءة بالعطف وحنو ملمس يدها فوق كتفي كافية لتمنعني من  الاعتراض او التصحيح، عدت ادراجي الى المنزل وانا استغرب اصرار هذه العجوز وعنادها .

كانت الزينة ما زالت تملاْ المنزل و رائحة الفرح ومشاعر الغبطة ما زالت تعبق في كينونتي ووجودي حتى بعد مرور اكثر من اسبوعين على زفاف ولدي، ورغم انه التحق الى مقر تطوعه منذ ثلاثة ايام، الا ان فرحة وجود زوجته التي تغدو وتروح امامي مثل فراشة الربيع اصبحت مصدر بهجة وسعادة لم اكن على قيدها قبل هذا.

كانت الليلة ستمر بشكل عابر لولا ذلك الاتصال الهاتفي الذي قظّ مضجعي واوجست منه خيفة ترجمتها نبضات قلبي الذي كاد ان يخرج من بين ضلوعي، كان صوته هذه المرة واضحا وعميقا كما لو كان يجلس قربي حتى كنت اسمع صوت انفاسه المضطربة، كان يتحدث ببطء وراحة تامة :

- امّاه، سأكون ورفاقي في مواجهة عدو كافر ونخوض غمار معركة المبادئ والمنايا ، اشفق ان اطلب منك براءة ذمتي والدعاء لي بإحدى الحسنيين ، لكن لا سبيل الى الجنة الا بنصرة دين الحق .

لحظة توقف فيها الزمن عندما ارتسمت بمخيلتي سريعا صورته وقد احاطت به المنون وبلغت القلوب الحناجر ، وجمت الكلمات عندي وخيم الصمت بيننا، انتظرت ان يعاود الكلام ثانية لأتيقن ان مايحدث حقيقة وليس اضغاث احلام، رأسي الذي من قش اصبح عشا لغربان الانتظار، بصعوبة بالغة خرجت مني الكلمات :

- هل اتصلت لتخبرني انك الان تقف على قارعة الموت ؟ انا التي ربطتك بحبل وريدي كيف لي ان احيا دونك؟

اسمع صوت انفاسه السريعة التي تختلط بنشيج الرجولة : امّاه، حبا بالله ورسوله، لا تزيدي الامر صعوبة ومشقة، آزريني بتراتيل دعائك الاثير، فانا في طفّ هذا الزمان, حيث تجتمع الازمنة تحت الخوذ اليافعة وحيث تستكين الحروب الحقيقية بإشارة من دعاء الامهات، ها هنا ارى علي الاكبر وعابس و جون و كل الاطفال تنظر صوب فرقتي وتعلّق الآمال على  النصرة، حبا بسبط النبي يا اماه هوني عليّ هذا الوجع الغفير وتيقني اني سأكون دوما ذلك الندى الغزير الماطر فوق جبهتك كلما قرأتِ دعاء اهل الثغور عند الفجر.

انا؟ انا التي اخبرك ان تمضي وتتركني؟ هل اجرؤ؟ نعم انا قلت مع نفسي في حالة من اللاشعور:

– انا ام وهب ، رددت بإصراروقد بان طيف ابتسامة فوق شفتي وانا المح الفكرة التي خطرت سريعا مثل شمس اشرقت بين ظلمة اصابعي التي تمسك بجهاز الهاتف، قلت وكنت قد ادركت حسن العاقبة وباتت منازل روحي مشرعة لريح الجنة: اذهب يا ولدي، ولا تتوانى عن ذكري عند جدك، فأنا التي سأستعين بالحنين على ذهابك حتى القاك، ستبقى روحي مثل مصور شمسي في مدينة لا يغادرها الليل .

نمت بطمأنينة تلك الليلة ولسان حالي يردد: شكرا يا ولدي، شكرا حزينا على كل هذا الجود، وشكرا على اتصال منتصف الليل الذي ارشدني الى هذه النفس المطمئنة.

ميثاق حامد حميد الجباوي