(الحلقة العاشرة)

الصراعُ

بدءاً لندخلْ بشكل سريع وبسيط لفهم ماهية الصراع في القصة القصيرة، وأقصد به هنا هو الأثر الذي يعكسه التباين والتمايز والاختلاف بين الشَّخصيَّات، ومن ثم ما ينتج عنه من تأزيم علاقاتها مع بعضها ومع الأشياء ليكون صراعاً، وليس المراد به طبعاً معنى الخصومة والنزاع.

أما وحدة الصراع؛ فهي إحدى الوحدات الرئيسية في الكتابة القصصية .. بل والصميمية أيضاً في القصة.. شأنها في ذلك شأن الحدث أيضاً، حيث إنهما يقعان في بؤرة الدراما المميزة للسرديات، كصراع يؤدي بالنتيجة الى حدث، وحدث يؤدي الى عقدة وحلٍّ وخاتمة، فماذا يعني الصراع؟ كيف يقوم؟ ولماذا؟

إن الصراع يعني الشد في العلاقات وتوترها، كما وإنه لا يقوم لولا وجود دافع ومحرّك ذاتي له؛ حيث إن جذور الصراع إنما تستقي ديناميكيتها من طبيعة الاختلاف في الخلق، والاختلاف سُنة كونية في الحياة، وأما في المتن السردي للقصة، فإنه سيمثل البداية لاحتدام الحدث أو الأحداث.. عبر بروز صراع نفسي مكبوت، أو ما بين ارادتين مختلفتين، ومن ثم تصاعده خلال تشابك خيوط الحبكة، وأعني به هنا هو ذاته الصراع الذي سيولّد الحدث أو الأحداث التي بعده، ولتبدأ بعدها خطوط عقدة الاشتباك بالانفراج التدريجي، وصولاً الى الحل والخاتمة في نهاية القصة.

ماهية الصراع؟

ليس بالضرورة طبعاً أن يكون الصراع بين شخصين أو جهتين أو قوتين، وسوف أسمي مثل هكذا صراع.. بالصراع الخارجي، وهو صراع معروف ومفهوم في اطرافه ودوافعه ونتائجه، ولا حاجة للوقوف عنده كما أعتقد.

ولكن أحياناً يكون الصراع نفسياً/ داخلياً؛ أي صراعاً ذاتياً داخل نفس بطل القصة ما بين نزعتي الخير والشر مثلاً، أو صراعاً ما بين العقل والقلب نتيجة ضعف ارادته على تنفيذ قرارات العقل بالتردد، وهذا الصراع سيشكل نوعاً من التضارب والتنازع والاحتدام النفسي بين شتى الانفعالات المتناقضة، تتصاعد لتتحول تدريجياً الى ما يشبه اعلان التمرد والعصيان والثورة على مستوى الفعل الخارجي بعدما كان هاجساً داخلياً، وحسب تقديري فإن الاستلهام الداخلي من الصراع النفسي/ الذاتي، واتخاذه مادة لتغذية متن القصة السردي، سيكون الأصعب والأقرب الى روح الفن، من تجسيد مثل ذلك الصراع بين طرفين عبر أحداث وأفعال خارجية.

ولكن هل ضرورة أن يكون مثل هكذا صراع في متن القصة القصيرة؟

الجواب نعم، لأني أحسب بأن الصراع موجود بالفعل في كل قصة أساساً بكيفية ما، سواءً أكان صراعاً خارجياً/ حركياً، أو داخلياً/ حسّياً، لكنه بالتأكيد سيكون بارزاً في الحالة الأولى بحيث يمكن ملاحظته ورصده والتفاعل معه بسهولة، وقد يكون أقل بروزاً في الحالة الثانية، وربما متماهٍ في وحدات القصة وفي صيرورة الحدث والشخصيات والزمان والمكان.. الخ.

كون الدراما – كما أحسب - موجودة في كل أجناس الأدب عموماً، وفي الأجناس السردية خصوصاً، ولكن حتى في هذه أيضاً ستكون بنسب متفاوتة، بيد إن القصة تعد حاجتها للدراما أساسية، وتتجسد ماهية مثل هذه الدراما في تغذية السرد بالفعل والحدث، إذ لا يمكن تخيل قصة من دون محركها الصراع.

موقف القاص

أحسب بأن من المهم هنا طرح السؤال التالي: هل على القاص أن يحسم أمر الصراع لصالح جهة دون أخرى؟ أقصد بالانحياز في قصته.. لطرف من الأطراف أو لفكرة من الأفكار؟

أو بمعنى أدق هل مطلوب من القاص أن يكون له موقفاً محدداً؟

من وجهة نظري البسيطة، أعتقد بأنه ليس عليه أن يجيب بشكل مباشر وواضح، بقدر ترك الحرية والحكم للقارئ، وهذه هي في رأيي جمالية الإمتاع في روح الفن، من خلال فتح مساحة أوسع للتأمل والتفكير والتأويل، وترك أبواب الحرية مشرعة دون اقحامها في قرارات قد تكون متعسفة خلافاً لقناعات هذا القارئ أو ذاك، وهو ما يقع الكثير من القصاصين في شراكه وشباكه، من خلال ظهور الانحياز بالمواقف لطرف من معادلة الصراع، واطلاق العبارات الجاهزة، كالأوصاف والنعوت والذم والشتم أحياناً، مما يبرد من تفاعل القارئ مع قضية البطل المركزية رغم حرارتها، وخسارة جزء من تعاطفه خلال سير المتن السردي للقصة، بمعنى إذا صرح القاص بأن هذا الفعل خسيس مثلاً، هل يعطي المفعول ذاته إن ترك القارئ بنفسه يكتشف مثل هذا الأمر ويتفاعل معه ويحكم عليه؟ ومن ثم يتعاطف مع الطرف الآخر الواقع عليه مثل هذا الفعل المشين؟

لا ريب إن موقف المتلقي مبني على عاطفته بالأساس، وليس على حكم القاص المسبق ووجهة نظره.

أخيراًً، سأقول بما كنت ولازلت أعتقده، وهو إننا في لغة الفن عامة والأدب خاصة نحتاج كثيراً الى لغة الإيماء والتلميح والإشارة، أكثر من لغة التصريح والمباشرة والإنشائية، كون الأدب فن الهمس الموحي قبل أي شيء آخر، فكلما اقترب القول من الجهر؛ كلما فقد جزءاً من جماليته، والأدب يتوخى بلوغ أعلى درجات الجمال. 

طالب عباس الظاهر