الحلقة السابعة

ولادة المهدي

هوَ الذي سيملأَ الأرضَ قمحاً وحبّاً وينثرُ الأحلامَ في حقولِ الأحداق .. هوَ .. أبجديةُ الوحي وخاتمتِهِ وصبغةُ اللهِ وكُنْهَ النبوُّاتِ .. سنراه .. أجلْ سنراه كما نرى الشمسَ وهي تبدِّدُ من حولها السَّحابَ وتفتضُّ الليلَ بنشوةِ السَّحَر .., أو كقمرٍ أوَّبَ لوعدِ الله ...

يجيءُ ليُلقي ظلالَ الوحي , ويرتّقُ جراحَ السنينِ , ويرفأُ ندوبَ النفوسِ , ويرقأ دموعَ الأنهارِ وهي تهمسُ بالماءِ للشاةِ والذئب ... يتنفّسُه الصباحُ كالندى وهو يراقصُ حفيفَ الأشجارِ .. سيغمِرُنا بنورِهِ كما بزغَ الصوتُ الذي لا ينطقُ عن الهوى وهو يبشّرُ الفصول: (إي والذي بعثني بالنبوةِ إنّهم لينتفعون به, ويستضيئونَ بنورِ ولايتِهِ في غيبتهِ كانتفاعِ الناسِ بالشمسِ وإن جلّلها السحاب).

(ستُخرِجُ الأرضُ أفلاذَها) قال لهم .. وكهيامِ نبيٍّ بصلاةٍ .. أو.. كعشقِ أرضٍ للمطرِ ينسابُ النورُ حتى تمتلئَ أعمدةُ التواريخِ وتزهِرُ التراتيلُ على أضرحةِ المعنى , فعندما يرنّمُ المطرُ لحنَه تصغي الأرضُ , وعندما تتغازلُ العصافيرُ تتبسّمُ الأشجار, وعندما يغرِّدُ العشقُ يسكتُ الشعر.  وحتى في أطرافِ المدينةِ ستناغمُ الأفعى على دفءِ الأعشاشِ أصواتَ البلابلِ فلا صوتَ هناكَ للغرابِ ولا سطوةَ للأسدِ على الظبي ولا تحرسُ الكلابُ زوجةَ الفلاحِ العجوز.

سيشيرُ الحاكمُ ــ القائمُ ــ إلى قلبهِ المقدَّسِ.. فالقلبُ يعرفُ العدلَ المطلق وهوَ الواضحُ أكثرَ منَ المرايا.., نسبُه أديمُ العشقِ, وفيضُ اللهِ مملكتُه النبوية و(تقلّبه في الساجدين) تنثرُها رفيفُ الملائكة .., ستظلّلهُ العصافيرُ بأجنحتِها, والنبعُ ..., النبعُ الراقصُ على شهقاتِ السواقي يغسلُ قدميهِ الحافيتين , والريحُ تحملُ ندى الصباحِ لتتلألأ على شفتيهِ كلمةُ اللهِ وهوَ يلقِّنُ الفجرَ تلاوةَ العشقِ : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).

عيناهُ تسرّانِ نوراً.. كلُّ شيءٍ موجودٌ في هذا العشق , قالَ الله ذلك , فهوَ المنقذُ والمصلحُ الحاضرُ الغائبُ .. إنّه النهرُ الذي يغسلُ الروحَ من عذاباتِ الأرضِ .. إنّه الأملُ الذي يشعُّ في خطوطِ الظلمة .. إنه البسمة والرحمة .. إنه الجمال والجلال .. الحلم والعلم .. العطاء والنماء .. إنه (الأمرُ) (الصعبُ المستصعبُ الذي لا يتحمَّله إلّا نبيٌّ مرسل, أو ملكٌ مقرَّب, أو مؤمنٌ امتحنَ اللهُ قلبَه بالإيمان). فالعقلُ الكبيرُ لا يتبرّمُ من امتدادِ تضاريسِ المحنةِ ... أمّا الفكرُ الضئيلُ فيسقطُ في متاهاتِ الهفوة ؟ (وإن الثاني عشر من ولدي يغيبُ حتى لا يُرى ويأتي على أمتي زمانٌ لا يبقى من الإسلام إلا اسمُه ولا من القرآن إلا رسمُه فحينئذٍ يأذنُ اللهُ بالخروجِ فيُظهِرُ الإسلامَ ويجدِّدُ الدين, طوبى لمن أحبه وطوبى لمن تمسَّكَ به والويلُ لمبغضِهِ)

القلبُ المفعمُ بالحبِّ يُحلِّقُ في سماءِ الحقيقةِ .. يسرجُ شراعَ الانتظار على شواطئِ اليقين .. وفي كلِّ يومٍ يزدادُ ثقةً وهو يخطو .., خطوة .. خطوتين .. ثلاث نحوَ العروجِ إلى دولةٍ كريمةٍ يرثُ فيها المباركونَ الأرضَ ، هي مسافة قلبٍ .. مسافةٌ تفصلُ الزمن .. (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) .., هي أطولُ من عمرٍ عقيمٍ جاحد .. وأقصرُ من نبضةِ مؤمنٍ في هدأةِ ليلِ العاشق، مسافة حبٍّ تسابقُه دقّاتِ قلبِهِ فيها إلى المسارِ ... الملاذ .. المرفأ الذي يقودُه نحوَ اسمهِ، وكيانهِ، وانتمائِهِ .... (لوْ لمْ يبقَ من الدنيا إلّا يومٌ واحد لطوّلَ اللهُ ذلكَ اليومَ حتى يلي رجلٌ من عترتي اسمه اسمي يملأ الأرضَ عدلاً وقسطاً كما مُلئتْ ظلماً وجوراً).

إنه المهديُّ والخلفُ والبقية والصاحبُ والصالحُ والخليفةُ والحجَّة والإنسانُ الذي لم يزلْ ملتقى النفوسِ ومهوى الأفئدة، ولا يزدادُ مع تعاقبِ الأزمانِ والأجيالِ إلا جلالاً وجمالاً، وقد عكفت على ساحلِهِ...، ويقيّضُ للمبحرِ في أثباجِهِ أن يلتقط الدرَّ، ولكنه كلما غاصَ في هذا الكمال تضاءلَ فكرُه أمامَ نورِهِ وقد أدارَ دفّة التاريخ، فانحنى لعظمته العظماء وخشعَ لجلالِهِ الأجلاء.

كانَ القمرُ شاهداً على تحقيقِ الوعدِ الإلهي فاكتملَ بهِ وأسفرَ مستبشراً بالمولودِ في هذه الليلةِ قائلاً: إنِّي أعاهدُ اللهَ أنْ أنذرَ وجهي لهذهِ الليلة ، وسأكون شاهداً مع الشمسِ والنجومِ والسماء والأرض ، وسأنثرُ من عبقِ هذهِ الليلةِ نسائمَ البُشرى في أرباضِ البلاد، وأيقظُ من نداها السنابلَ في صلاةِ الفجرِ ، وأناجي القرونَ بما ترقرقَ من كوثرها على فمِ الشعراء ، وسأجعلُ منها واحة غنّاء يُستنشق منها رياحينُ الولاء , وأخصِّبُها بأجواء الانتظار , وأردِّدُ ما تناثرَ من أصدائِها حتى تدبَّ فيها البيِّنات، وتختلجُ فيها الأمنيات.

القرونُ تنتقلُ كانتقالِ النحلةِ من زهرةٍ الى أخرى، تجمعُ منها رحيقَ الانتظارِ لتصبَّه صبراً مصفّى في خليَّةِ قلوبِ المؤمنين المتلهِّفين لإشراقةِ وجههِ النبويِّ منذُ يوم ولادته , فيقومُ وبيدِه صولجانُ النبوُّاتِ وبين يديهِ المسيحُ والخضرُ , وقد حملَ لواءَهما ليبثّ فيهما روحَ اللهِ من جديد, روحَ آبائِهِ وأجدادِه, (وجعلَ من صلبِ الحسينِ أئمةً يهدونَ ويوصونَ بأمري ويحفظونَ وصيتي , التاسعُ منهم قائمُ أهلِ بيتي , ومهديّ أمتي , أشبه الناسِ بي في شمائلِهِ وأقوالِهِ وأفعالِهِ ليظهرَ بعدَ غيبةٍ طويلةٍ وحيرةٍ مُضلّةٍ فيعلن أمرَ اللهِ ويظهر دينَ الحق) , ولتصبح كربلاء أنشودة نهضتهِ الحماسية, ولحنهُ الشجي.

يقومُ وفي عينيهِ دمعةُ الطفِّ , وعلى شفتيهِ ظمأ يومِ الطفِّ وتغلي في دمائِهِ أصداءُ صراخِ الأطفال يخترقُها واعية جده التي تتفطرُ لها القلوب ويتدفّقُ لها الحزنُ العميق ((ألا من ناصرٍ ينصرنا)) فيتجسَّدُ المشهدُ أمامَه , ويصعدُ الدمُ في جبينِهِ , فيقوم ضاجّاً متألّماً من هولِ المأساةِ فأيُّ دمٍ في ذلكَ اليوم قد سُفِك؟ وأيُّ حريمٍ قد انتُهكت ؟ فمشاهدُ ذلكَ اليوم الحزين تتّحدُ في مخيلتِهِ بالحزنِ والألمِ لتشكّلَ هدفَه السماويَّ في إنقاذِ الأمةِ من الطواغيتِ والجبابرةِ .. فهوَ الرمزُ الأعلى والأملُ الأكبر

ويطولُ حزنُه وأساه على تفاصيلِ الفاجعة الأليمة واللوحاتِ المأساويةِ الناطقةِ التي ضمّها متحفُ التأريخ حيثُ يستبدُّ الحزنُ به حتى يصبح هذا الحزنُ ديدَنه وتتغلغلُ صورُ عاشوراءَ في نفسهِ وتمتزجُ بدمهِ لتصبحَ جذوةً من الغضب.

(من أنكرَ القائمَ من ولدي في غيبتِهِ ماتَ ميتةً جاهلية) .., يخضَّرُ الاغترابُ على قناديلِ المنائرِ .. يتجلّى المعنى بهمساتِ الليلِ .. يبوحُ بها الفجرُ عندَ أولِ ترتيلةٍ لصلاةِ الظهورِ .., حيَّ على اللقاءِ ... هكذا تبذرُ الأمنياتُ جدائلَها ..

أيُّها القدِّيسُ الغائبُ في فنارِ اللهِ .. متى تثمرُ سدرةُ المنتهى ؟

متى تعشوشبُ أنفاسُ الليلِ المُتهجِّدِ بالنورِ ؟

متى تعانقُ مرافئُ الحنينِ أشرعةَ الخلاص ؟

متى تستيقظُ أرواحُ الكهفِ من سُباتِ الحَجَرْ ؟

متى تَّتقدُ بوصلةُ السماءِ على قبلةِ نزيفِ الطفِّ ؟

 قوافلُ الدموعِ أسرَتْ من عيونِ التيه .. الصوتُ ــ النبوءة ــ الذي أوقدَ في روحِها بوصلةَ الهدى تتبعه بقلبِها قبلَ مسراها .. تحثّها (جاذبيته) التي بثّت فيها انتماءها إليه .. تتوقُ له .. تسترجعُ صداهُ في نفسِها وقلبِها وروحِها و..... لتلبِي نداءَ القلبِ المنقذِ الذي ينتشِلُها من جرفِ سيلٍ عارمٍ، وشفا وادٍ سحيق ويقودُها إلى الواحةِ السماويةِ وهي تشيرُ إليها بأفيائها وسطَ الضباب......

إنه شلالُ الطمأنينةِ ينسابُ إلى قلبهِا الوالهِ... لقد عانقتِ الأملُ الذي يشعُّ في عتمةِ الروح ووردت ساقيةَ النجاةِ (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًاً).

محمد طاهر الصفار