السكونُ يغلّفُ المكان, سوى من صفيرِ الرياحِ الذي يبعثُ في رأسي الشعورَ بالغثيانِ والرهبةِ معاً, رأيتُها من بينِ الوجوهِ الكالحةِ البائسة, كانت جالسةً معهم... تطلعتُ إليها.. وكمْ تمنيتُ أن أمسحَ دموعَها الحارّة المنسابة على وجنتيها.. كادَ قلبي ينفطرُ من الأسى وأنا أراقبُها عن كثبٍ من بين الجالسين معها وقد غطى الحزنُ وجوهَ الجميع.

الظلامُ كان دامساً, لكن الأنينَ المنبعث من الأصواتِ كان يفصحُ عن الألمِ الطاغي في القلوب.. فلمْ أكُنْ بأحسن حال منهم لكنني لا أستطيع أن أبكي... في الصباح, كنت أبحث عن اسمي في قوائمِ الجرحى, كانت (هيَ) أمامي تتطلع بعينيها الذابلتين إلى القوائم نفسها, لم يكن يهمني اسمي بمقدار ما يهمني (هيَ) عندما لا تجد اسمي!! دققتُ النظرَ في الأسماءِ جيداً وقلبي يرتعش .. يا الله ما سيكون حالها عندما تنتهي (هيَ) من قراءة هذه الأسماء ولا (تجدني) ؟ شاهدتُ كثيراً من الناس يسيرون بسرعةٍ وخوفِ وقلقِ في ذلك البهوِ الطويل, كان كل منهم يسيرُ في دوّامة وهو تائه في محيطِ حزنه..., في حالة من الهستيريا ركضت معهم علّي (أجدني)!!, وكانت (هيَ) تسبقني بخطواتها حتى دخلنا حجرة غريبة!! كان ما أحسسته يكاد يكون حاجة الى استيقاظ من سُبات عميق، هناك أمورٌ تجري في أعماقي من العسيرِ عليّ أن أعيها كأن أعضائي قد تفكّكت ثم عادت وارتبطت في نظامٍ آخر, الغرفة التي أراها الآن قد مُلئت بصناديق مرصوصة مغلقة مصنوعة من الحديد مستطيلة الشكل, وكانت هناك أسِرَّة كثيرة قد غُطيتْ بقطعٍ من القماش.., شعورٌ باشمئزازٍ غريبٍ راودني.. أحسست كأن جسدي قطعة من اللحم الميت! ثم أدركتُ فجأة سببَ الشعورِ بالغثيانِ في رأسي أثناءَ الليل، عندما عرفت أن تلك الغرفة الممتلئة بالصناديق كانت: ثلاجة الموتى.... لم تزل (هيَ) ــ أمي ــ بجانبي وأنا أحدّق برعبٍ باب الثلاجة, أكادُ أسمعُ دقّات قلبها.. كل ما أخشاه أن أكون هنا!!, اقتربتُ بخوفٍ وتفحّصتُ السريرَ الأول.. والثاني.. وفجأة !!.. تسمّرت قدماي عند السريرِ الثالث.. أكاد لا أصدق وأنا أنظر إلى الجثة المتفحّمة التي تكوّمت فوق السرير.. كدتُ أسقط من مدى الرعب الذي أصابني؟ حدّقت طويلاً حول عنق الجثة أو (الشهيد) فوجدت سلسلتي التي تدلّت من عنقها وقد لمعت في وسطها لوحة معدنية صغيرة توسطها اسم "الله" فأيقنت بالحقيقة المرة..., كان آخر ما سمعته صوت أحدهم... "الله اكبر".

زهراء جبار الكناني