لم تكن تتوقّع أن تؤول أمور المسلمين إلى هذا الوضع المزري من التشتت والفوضى والفرقة والتناحر وسلب الحقوق وسفك الدماء وإثارة الفتن بعد أن غُصبت الخلافة من أهلها حتى تطاول الطلقاء إليها فكانت تراقب الأحداث عن كثب بحرقة ممزوجة بالحزن والأسى.
لقد سمعت كما سمع غيرها من المسلمين حديث زوجها سيد المرسلين محمد (صلى الله عليه وآله) يوم الغدير وهو يرفع بيد علي (عليه السلام) (من كنت مولاه فهذا علي مولاه, اللهم والِ من ولاه, وعاد من عاداه, وانصر من نصره, واخذل من خذله), ولكن الأمة عملت بعكس ما أراده الرسول فقد حاربت علياً من بعده وسلبته حقه وها هو معاوية بن أبي سفيان عدو الله وعدو رسوله يحارب أمير المؤمنين وينصب نفسه للخلافة!!
كان مما يزيد حرقتها وألمها أن ليس بمقدورها عمل شيء فطاعة الله ورسوله ووليه تحتّم عليها البقاء في منزلها كما أمرها الله بذلك بقوله: (وقَرْنَ في بيوتكن) لكنها أدت واجبها الشرعي وبذلت جهدها وجهادها بالنصيحة والدعوة إلى الالتزام بوصية النبي في علي والتمسك به وطاعته وكانت في كل ذلك ترجو الهدى لأمة محمد (صلى الله عليه وآله) والتوجّه لما يرضي الله ورسوله بما استطاعت إليه سبيلا.
لقد مات رسول الله (ص) وهو عنها راضٍ كأحسن ما تكون عليه الزوجة المخلصة الناصحة، وشهد لها بالإيمان والجنة مع أخواتها فنلن منه شرف الإيمان بوصفهن بـ (الأخوات المؤمنات) وبعد وفاته (ص) التزمت بوصية الرسول بالتمسك بأمير المؤمنين حبل الله المتين ولازمت ولاءه فلم تزجّ نفسها في أحداث وفتن تغضب الله ورسوله، بل أدّت ما عليها من النصح والإرشاد فكانت مثلاً سامياً للمرأة الصالحة.
كانت ترى أن من واجبها الموعظة وخاصة في ذلك الوقت الذي أثار بنو أمية الفتن وحاولوا إرجاع الجاهلية الأولى بنبذ تعاليم الإسلام ومحاربة الله ورسوله حيث آل الأمر إلى العمل بالمنكر والنهي عن المعروف على يد معاوية فكانت وهي في المدينة المنورة تشير ببوصلة الهدى إلى اتباع طريق الحق المتمثل بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).
في تلك الفترة الحرجة التي تموج بالفتن والصراعات يستأذن عليها أحد المسلمين لمعرفة رأيها في ما يحدث ومن يجب اتباعه في خضمّ هذا الواقع المرير..
جاء شقير بن شجرة العامري إلى المدينة، فاستأذن عليها فقالت: من أين أقبل الرجل؟ قال: من الكوفة. فقالت: فمن أي القبائل أنت؟ فقال: من بني عامر فقالت. حييت. فما أقدمك؟ فقال: يا أم المؤمنين، رهبت أن تكبسني الفتنة لما رأيت من اختلاف الناس، فخرجت.
فقالت: فهل كنت بايعت علياً عليه‌ السلام؟ فقال: نعم.
قالت: فارجع فلا تزولن عن صفِّه ، فوالله، ما ضلّ، ولا ضلّ به.
ولكن الرجل أراد أن يطمئن قلبه بأن رأيها هذا هو من رسول الله وليس منها فقال: يا أمّاه، فهل أنتِ محدثتي في علي بحديث سمعته من رسول الله (ص)؟
قالت: اللهم نعم ، سمعت رسول الله (ص) يقول: علي آية الحق، وراية الهدى، علي سيف الله يسله على الكفار والمنافقين، فمن أحبه فبحبي أحبه، ومن أبغضه فببغضي أبغضه، ومن أبغضني أو أبغض علياً لقي الله (عز وجل) ولا حجة له.
وتتكرر هذه الحادثة مع جرير بن كليب العامري كما يروي ما نصه: لما سار عليّ (عليه السلام) إلى صفين، كرهت القتال فأتيت المدينة فدخلت على ميمونة، فقالت: ممن أنت؟ قلت: من أهل الكوفة، قالت: من أيِّهم؟ قلت: من بني عامر، قالت: رحباً على رحب، وقرباً على قرب تجيء، ما جاء بك؟ فقال: سار عليّ (عليه السلام) إلى صفين، وكرهت القتال فجئنا إلى ها هنا، فقالت: أكنت بايعته؟ قال: قلت: نعم، قالت: فارجع إليه فكن معه، فوالله ما ضَلّ ولاضُلَّ به.
إنها أمّ المؤمنين السيدة ميمونة بنت الحارث الهلالية العامريّة آخر زوجات النبي محمد (ص) والتي اقتبست من آثار التعاليم الإلهية ونهلت من فيوض الرسالة المحمدية فنالت درجات رفيعة في الإيمان والتفقه في الدين وحفظ الحديث الشريف.
لقد تزيّنت ميمونة بزينة الإيمان، وتحلّت بعقود العقيدة، ولبست أبهى حلل اليقين والولاء لأهل البيت (عليهم السلام)، فهامت بالحب الذي أمرنا به الله وتعلّقت بالمودة التي فرضها الله على كل مؤمن ومؤمنة في كتابه العزيز فقال تعالى: (قل لا أسئلكم عليه أجراً إلا المودة في القربى). فترجمت هذا الحب والولاء إلى الدعوة إلى الحق واتباعه فكانت كلماتها في سبيل إعلاء الحق ودحض الباطل كجهاد الرجال في سوح الوغى.
أمها: هند بنت عوف بن زهير التي وصفت بأنها أكرم النساء أصهاراً فهي أمُّ الأخوات المؤمنات وهنّ:
1ــ أمِّ المؤمنين زينب بنت خزيمة الهلالية العامرية زوجة النبي, وكانت تسمى أم المساكين لعطفها على الفقراء والمحتاجين كانت قبل أن يتزوجها النبي متزوجة من عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب أول شهيد في الإسلام فلما استشهد في بدر تزوجها بعده رسول الله.
2 ــ أسماء بنت عميس الخثعمية: كانت زوجة لجعفر بن أبي طالب وبعد استشهاده في مؤتة تزوجها أبو بكر فلما مات تزوجها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. 

3ــ سلمى بنت عميس الخثعمية زوجة حمزة بن عبد المطلب.
4 ــ أم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث الهلالية زوجة العباس بن عبد المطلب وكانت من أوائل المؤمنات بالبعثة النبوية الشريفة وكان لها موقف في الإسلام دل على عميق إيمانها في الدفاع عن المسلمين المستضعفين وذلك عندما أسلم أبو رافع خادم العباس بن عبد المطلب جاء أبو لهب فضربه ضرباً مبرحاً فجاءت أم الفضل فرأت أبا لهب وهو يضرب أبا رافع فحملت عموداً وشجّت به رأس أبي لهب وخلصت أبا رافع منه.
تزوج النبي ميمونة عام (7هـ) بعد أن بعث بجعفر بن أبي طالب لخطبتها فوكلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب زوج أختها فنالت شرف لقب أم المؤمنين وشهد لها رسول الله بالإيمان كما كانت من أفضل زوجاته بعد الصديقة خديجة الكبرى (عليها السلام), وعُرفت بالتقوى والعبادة فعندما سمعت عائشة بوفاة ميمونة قالت: (أما إنها كانت والله من أتقانا لله، وأوصلنا للرحم).
توفيت السيدة ميمونة بعد عودتها من الحج بـ (سرف) سنة (51هـ) ودفنت حيث أوصت في موضع زواجها من رسول الله وكان عمرها الشريف ثمانون سنة وصلى عليها ابن أختها عبد الله بن العباس.

 


محمد طاهر الصفار