صرخة من خضم الفاجعة

 

مضى زمن طويل على ذلك اليوم الذي التقت فيه برسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا زالت تتذكر تلك اللحظات حينما تحدثت معه .. إنها لن تنسى ما دامت حية ذلك الوجه الملائكي الذي انسابت كلماته في روحها بالطمأنينة واليقين, لقد كانت ــ في حينها ــ قلقة على مصيرها ومصير المؤمنات أمثالها فسألت رسول الله عن تكليفها وعما كتب الله عليها من أعمال تؤديها لكسب مرضاته بعد أن أمر الله تعالى الرجال بالجهاد في سبيله فقالت: (يا رسول الله، إنّا ذوات الخدور، ومحل أُزُرِ البعول، ومُرَبِّيات الأولاد، وممهِّدات المهاد، ولا حَظَّ لنا في الجيشِ الأعظم، فعلّمنا شيئاً يقرّبنا إلى الله عز وجل).
فنظر إليها النبي (صلى الله عليه وآله) نظرة الشفيق الرؤوف وقال: (عليكنّ بذكر الله عز وجل آناءَ الليل وأطراف النهار، وغضّ البصر، وخفض الصوت)
أشرقت روحها بوهج الإيمان وهي تستمع لهذه الكلمات النبوية.., وبلغ من شدّة حرص هذه المرأة على دينها أنها سألت رسول الله عن عملها إن كان فيه ما يخالف شرع الله, وهل هو جائز في الإسلام أم لا ؟ فقالت له: (إني امرأة مقيِّنة أقيِّن النساء وأزينهنَّ لأزواجِهنَّ فهل هو حوب فأثبط عنه) ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) طمأنها مرة أخرى وأجاز لها عملها وبيّن حليته فقال لها: (يا أم رعلة قينيهنَّ وزينيهنَّ إذا كسدن)
كان عملها يتطلب منها التنقل بين أحياء العرب فغادرت أم رعلة القشيرية المدينة وهي على أمل اللقاء بالنبي مرة أخرى والتزوّد من الفيض النبوي..
وبعد سنين عديدة كانت تتوق فيها لزيارة المدينة المنورة واللقاء ثانية برسول الله حانت فرصة السفر إلى المدينة مرة أخرى وهي الآن في الطريق إليها وفي أشد الشوق إلى رؤية رسول الله فتغذ السير مع زوجها للتشرف بلقائه..
وتصل أم رعلة المدينة مع زوجها أبي رعلة لكنها لا تعلم لم خفق قلبها بشدّة وأحسّت بغصّة في فمها وانقباض في روحها وكأنها مقبلة على سماع خبر جلل...
الليل يخيّم على المدينة والسكون يسود المكان إلا من عواء متقطع لذئاب جائعة قادم من بعيد ونباح لكلاب وكأنه نذير شؤم.. أحسّت برأسها يموج بالظلام! كانت بحاجة إلى من يحدثها بأخبار المدينة أكثر من حاجتها إلى قنديل في ذلك الظلام الدامس
قضت ليلتها تتصارع في رأسها الهواجس والمخاوف. كان كل شيء حولها ينذر بوقوع أمر عظيم وما إن أشرق الصباح حتى كانت تتمنّى أنها ماتت في ليلتها تلك ولم تكن سمعت ما سمعت
ــ لقد مات رسول الله .. وماتت فاطمة
أسرعت إلى دار علي وعرفت كل شيء... ورأت آثار ما سمعت على الباب
تلقت الخبر وهي لا تعي .. أيمكن أن تصل الأمور إلى هذا الحد مع ابنة رسول الله !!!
لكن لم يكن الحزن والألم وحده هو ديدن هذه السيدة البدوية التي عرفت بـ (الفصاحة والبلاغة) وكان النبي معجباً بفصاحتها وبلاغتها. لقد آلمها السكوت على كل هذه المآسي التي جرت على بضعة الرسول وريحانته فضمّت الحسن والحسين إلى صدرها وبكت بكاء مريراً وأخذتهما وطافت بهما في أزقة المدينة وهي تبكي وتندب وتقول:
يا دارَ فاطمةِ المَعمُورِ ساحتُها * هيِّجْتِ ليْ حَزَنَاً حُييتِ من دارِ
وتجددت الآلام وتقرحت العيون وانفتقت الجروح لقد طافت على جميع بيوت المدينة ومعها الحسنان وهي تنشد هذا البيت فهاجت المدينة وكأن فاطمة قد ماتت للتو وأقيمت المآتم وقابلنها النساء بالصراخ والعويل فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وأهلها يبكون.
رحم الله هذه السيدة المؤمنة التي كانت مصداقاً لقول الإمام الصادق (عليه السلام): (رحم الله من أحيا أمرنا وحزن لحزننا).


محمد طاهر الصفار