الامام المهدي (عجل الله فرجه) ليست فكرة شيعية ؛ بل حقيقة الوجود

الكلام عن الامام المهدي (عليه السلام) كلام عن حقيقة الوجود التي طالما تداولت بها الالسن ، وبحث عنها الباحثون ، لكن المتأمل في التاريخ والمتجرد عن خلفية الماضي سوف يجد تلك الحقيقة واقعة في عالم الوجود ، عالم دنيا الانسان ، الا ان امتداد الصراع بين الخير والشر عكس ظلاله على تلك الحقيقة واخفاها عن البعض مما حصل فيها بعض اللغط في الكلام والخدش فيها.

ونتيجة للاستمرارية هذا الصراع بين خط الهدى وخط الضلال ، خط الانبياء الذي يمثله أئمة الهدى (عليهم السلام) ، وخط الجاهلين الطغاة الذي يمثله الخط الآخر المعاكس بقيت مسألة الامام المهدي (عليه السلام) مضطربة في ذهنية ممن لا يرغبون في معرفة الحقيقة مع انعكاسها في القرآن وفي السنة النبوية الشريفة.

اذ لم يكن لطف الله تعالى ليغيب عن هذه الارض حتى مع انقطاع النبوة ، فقد شاء الله ان يجعل لهذه الامة مصلحا يتحمل مهمة الانبياء (عليهم السلام) في الدعوة والتبليغ الى مبادئ الهدى والعمل بما جاء به النبي محمد (صلى الله عليه واله) ، وذلك وعد حق نطق به القرآن الكريم، ووعدت به الكتب السماوية ، واشارة اليه السنة النبوية.

القرآن الكريم وحقيقة ظهور المهدي :

لقد اشار القرآن الكريم الى هذه الحقيقة والى ظهور المصلح العالمي بعد ان سجلت الرواية الصادرة عن النبي (صلى الله عليه واله) انه من ولد فاطمة الزهراء (عليها السلام) وذريتها المباركة.

اخرج ابن ماجة في سننه ، عن سعيد ابن المسيب ، قال: (كنا عند ام سلمة فتذاكرنا المهدي ، فقالت : سمعت رسول الله (صلى الله عليه واله) يقول: المهدي من ولد فاطمة). سنن ابن ماجة: ج٢ص١٣٦٨.

قال تعالى : {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ان الارض يرثها عبادي الصالحون} الانبياء: ١٠٥ .

لو لاحظنا المفردات الواردة في الآية المباركة : (الارض ، الارث، الزبور ، الذكر) ودققنا في معانيها لوجدنا ان المراد من ذلك وراثة الارض من قبل الصالحين وهذا لا يتم الا على يد الامام المهدي (عليه السلام).

ان كلمة (الارض) تطلق على مجموع الكرة الارضية وتشمل كافة انحاء العالم ان لم تكن هناك قرينة على خلاف ذلك.

وان لفظ (الارث) يأتي بمعنى انتقال الشيء الى شخص بدون معاملة واخذ وعطاء ، وقد استعملت هذه الكلمة (الارث) في القرآن احيانا بمعنى تسلط وانتصار قوم صالحين على قوم طالحين، والسيطرة على مواهبهم وامكانياتهم ، قال تعالى : {واورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها} الاعراف: ١٣٧

وان المراد من كلمة (الزبور)هنا هو كتاب مزامير داود - وهي عبارة عن مجموعة ادعية النبي داود ومناجاته ونصائحه ومواعظه - .

والمراد من (الذكر) بمعنى التوراة ومع ملاحظة ان الزبور كان بعد التوراة فان تعبير {من بعد} حقيقي، وعلى هذا فان معنى الآية القرآنية : اننا كتبنا في الزبور بعد التوراة اننا سنورث العباد الصالحين الارض . الامثل : ج٨ ص٣٣٥ بتصرف.

جاء في تفسير مجمع البيان عن الامام الباقر (عليه السلام) في ذيل الآية مورد البحث : (هم اصحاب المهدي في آخر الزمان).

وجاء في تفسير القمي في ذيل هذه الآية : {ان الارض يرثها عبادي الصالحون} قال: (القائم واصحابه).

وان هذه الروايات بينت المصداق الواضح ، ففي كل زمان وفي اي مكان ينهض فيه عباد الله الصالحون بوجه الظلم والفساد فانهم سينتصرون عاقبة الامر ، وسيكونون ورثة الارض وحاكميتها .

وقد رويت روايات كثيرة جدا بلغت حد التواتر عن الرسول (صلى الله عليه واله) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) وعن طريق الشيعة والسنة ، في شأن الامام المهدي (عليه السلام) وكلها تدل على ان حكم الارض سيقع في ايدي الصالحين ، وان رجلا من اهل البيت (عليهم السلام) يقوم فيملأ الارض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا .

ومن جملة الروايات الحديث المعروف عن النبي (صلى الله عليه) والذي نقلته اكثر المصادر الاسلامية : ((لو لم يبق من الدنيا الا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلا (صالحا) من اهل بيتي يملأ الارض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا)).

وقد ورد هذا الحديث بهذا التعبير مع الاختلاف يسير في كثير من كتب الشيعة واهل السنة . راجع منتخب الاثر ، ونور الابصار في نفس الموضوع.

قال تعالى : {هو الذي ارسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} التوبة : ٣٣

وقال تعالى : {هو الذي ارسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا} الفتح : ٢٨

هذه الآية تخبر عن حدث مهم وكبير استدعت اهميته ان تتكر الآية في القرآن ، وهذا الحدث الذي اخبرت عنه الآية هو استيعاب الاسلام للعالم كله.

عند ملاحظة اطلاق الآية اذ لاقيد ولا شرط فيها فلا معنى لتحديد الانتصار في زمن معين وان حدث ذلك الانتصار في تلك الفترة الزمنية ، الا ان مفهوم الآية يعني انتصار الاسلام كليا ومن جميع الجهات على جميع الاديان .

ومعنى هذا ان الاسلام سيهيمن على الكرة الارضية عامة ، وسينتصر على جميع العالم وان تأخر في الوقت الحاضر ، لكن وعد الله غير مكذوب ، فانتصار الاسلام حتمي وانه سيتحقق تدريجيا ، ويكون هذا على يد الامام المهدي (عليه السلام).

وقد روي عن الامام الباقر (عليه السلام) انه قال: (ان ذلك يكون عند خروج المهدي ، فلا يبقى احد الا اقر بمحمد (صلى الله عليه واله). مجمع البيان :ج٥ ص٤٥ ذيل الآية مورد البحث.

وكما ورد في التفسير ذاته عن النبي (صلى الله عليه واله) انه قال : ((لا يبقى على ظهر الارض بيت مدر ولا وبر الا ادخله كلمة الاسلام))المصدر السابق .

كما ان الشيخ الصدوق ، روى عن الامام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية - في كتاب اكمال الدين - انه قال: (والله ما نزل تأويلها بعد ، ولا ينزل تأويلها حتى يخرج القائم ، فاذا خرج القائم لم يبق كافر بالله العظيم). نور الثقلين: ج٢ ص٢٢١.

الا ان بعض المعاندين بقوا على عنادهم الاعمى رغم ظهور حقيقة الامام المهدي (عليه السلام) وانهم يقولون ان هذه التفاسير للآيات القرآنية في مورد البحث والروايات الواردة في ذلك من افكار الشيعة ومعتقداتهم او معتقدات من يميل الى التشيع ؛ بل يقولون : ان الاعتقاد بوجود المهدي مدعاة للتخلف والركود!! ذهب الى هذا القول احمد امين المصري وابن خلدون ومن تبعهما. الامثل : ج٥ص٢٠٩.

وقد ورد في تفاسير العامة ما هو مخالف لنظرية هؤلاء ، فقد فسر ابو حيان الاندلسي في تفسيره الشهير البحر المحيط ، عند تفسير قول الله تعالى : {ليظهره على الدين كله} بقوله : (وقال السدي : ذلك عند خروج المهدي ، لا يبقى احد الا دخل في الاسلام ، او ادى الخراج ).

ولقد فسر مالك بن انس الآية : {ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين} بان مصداقها لم يتحقق وان الامة ما زالت تنتظر من تتحقق على يديه هذه الآية. وقد سجلت الكتب الاسلامية التي مباحثها الروائية والحديثية العديد من الروايات والاحاديث التي اخبر بها الرسول (صلى الله عليه واله) امته ، بما اطلع عليه من الغيب بخصوص تبليغ رسالته ومسيرة امته ، لتبلغ جادة الحق .

اخرج احمد والماوردي ان النبي (صلى الله عليه واله) قال: ابشروا بالمهدي ، رجل من قريش ، من عترتي ، يخرج على اختلاف من الناس والزلزال ، فيملأ الارض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا). الصواعق المحرقة : ص٩٩.

ومن الاحاديث المتعلقة بالامام المهدي (عليه السلام) نقلها عدة من اصحاب النبي (صلى الله عليه واله) منهم : علي بن ابي طالب ، وعثمان بن عفان ، طلحة بن عبيد الله ، عبدالرحمن بن عوف ، قرة بن اساس المزني ، عبد الله بن حارث ، ابو هريرة ، حذيفة بن اليمان ، جابر بن عبد الله ، ابو امامة ، جابر بن ماجد ، عبد الله بن عمر ، انس بن مالك ، عمران بن حصين ، وام سلمة . فهؤلاء عشرون راويا صحابيا رووا عن النبي في المهدي وغيره كثير ايضا .

النصوص الواردة :

عن ابي سعيد الخدري ، ان النبي قال : ((يكون في امتي ان قصر فسبع والا فتسع فتنعم فيه امتي نعمة لم ينعموا مثلها قط تؤتي اكلها ولا تدخر منهم شيئا والمال يومئذ كدوس فيقوم الرجل فيقول : يا مهدي اعطني فيقول : خذ ). سنن ابن ماجه : ج٢ص١٣٦٦.

عن ابي سعيد الخدري :

(قال رسول الله : ابشركم بالمهدي يبعث في امتي على اختلاف من الناس وزلازل يملأ الارض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الارض يقسم المال صحاحا فقال الرجل : وما صحاحا ؟ قال: بالسوية بين الناس ) . بحار الانوار : ج٥١ ص٧١ .

عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس : قال رسول الله (صلى الله عليه واله) :

((ان خلفائي واوصيائي وحجج الله على الخلق بعدي اثنا عشر ، اولهم اخي ، واخرهم ولدي ، قيل : يا رسول الله ومن اخوك؟ قال: علي بن ابي طالب ، قيل : فمن ولدك؟ قال: المهدي ، يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا . والذي بعثني بالحق نبيا لو لم يبق من الدنيا الا يوم واحد لاطال الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه ولدي المهدي فينزل روح الله عيسى بن مريم فيصلي خلفه ، وتشرق الارض بنور ربها ، ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب )). المصدر السابق.

حكومة الصالحين في مزامير داود :

ان مسألة الامام المهدي (عليه السلام) ليست فكرة شيعية كما يزعمون المخالفون انتجتها ظروف الكبت والارهاب ، كسلوة نفسية وآمال يوحيها العقل الباطن الكبوت ، بل هي اخبار عن رسول الله (صلى الله عليه واله) بظهوره كمصلح لهذه الامة بعد ما يحصل فيها من الفساد الاخلاقي والعقائدي والاجتماعي والسياسي . ليقيم دولة العدل الالهي المنتظرة على يديه . كما وردت البشارة اليه (عليه السلام) ضمن حكومة الصالحين في مزامير داود - والذي هو جزء من كتب العهد القديم - على هيئة فقرات في المزمور ٣٧ :

* ففي الجملة ٩ جاء فيها : (... لان عاملي الشر يقطعون والذين ينتظرون الرب هم يرثون الارض ، بعد قليل لا يكون الشرير ..).

* وفي جملة ١١ جاء فيها : (اما الودعاء فيرثون الارض ويتلذذون في كثرة السلامة ).

* وفي جملة ٢٧ يلاحظ فيها هذا الموضوع بتعبير اخر : (لان المتبركين بالله سيرثون الارض، اما الملعونون فسينقطع اثرهم ..).

* وفي جملة ٢٩ جاء فيها : (ان الصالحين سيرثون الارض وسيسكنون فيها الى الابد ) .

* وفي جملة ١٨ جاء فيها : (ان الله يعلم ايام الصالحين ، وسيكون ميراثهم ابديا ) . الامثل : ج٨ص٣٣٨ ، نقلا عن كتاب العهد العتيق : ص٨٥٦ و٨٥٧.

ان هذه التعبيرات دليل على عموم حكومة الصالحين ، وانها تطابق تماما مع احاديث قيام الامام المهدي (عليه السلام) وحركته الاصلاحية .

نعم يصعب على اولئك الذين شهدوا وعاشوا في ظل حكم الطواغيت الظلمة والعتاة المتجبرين قبول هذه الحقيقة بسهولة ، وهي ان كل هذه الحكومات على خلاف نواميس الخلقة وقوانين عالم الخلقة، وان ما ينسجم معها هو حكم الصالحين المؤمنين الا ان التحليلات الفلسفية تنتهي الى ان هذه الحقيقة واقعية ووجودية .

وبناء على هذا فان جملة {ان الارض يرثها عبادي الصالحين}. قبل ان تكون وعدا الهيا ، فانها تعتبر قانونا تكوينيا . شاء الله ان يعجل ظهور ويملأ الارض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا .

الحمد لله رب العالمين

الكاتب: السيد زكي الموسوي

gate.attachment