(الشبهة) حرمة البنـاء على القبـور – الرد للشيخ محمد جواد البلاغي .

قال الوهابي : "أمّا البناء على القبور فهو ممنوع إجماعاً; لصحّة الأحاديث الواردة في منعه، وبهذا أفتى كثير من العلماء بوجوب هدمه، مسـتندين على ذلك بحـديث عليّ (رضي الله عنه) أنّه قال لأبي الهيّـاج: "ألا أبعثـك على مـا بعثـني عليه رسـول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم)؟! أن لا تدع تمثالا إلاّ طمسته، ولا قبراً مُشرِفاً إلاّ سوّيته". (رواه مسـلم /ج3 /ص61) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الرد : قال الشيخ البلاغي : إعلم أنّ البناء على قبور الأنبياء والعباد المصطَفين تعظيمٌ لشعائر الله، وهو من تقوى القلوب، ومن السـنن الحسـنة. حيث إنّه احترامٌ لصاحب القبر، وباعثٌ على زيارته، وعلى عبادة الله عزّ وجلّ ـ بالصلاة والقراءة والذِكر وغيرها ـ عنده، وملجأٌ للزائرين والغرباء والمساكين والتالين والمصلّين. بل هو إعـلاء لشأن الدِين ! وعن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): " مَن سنَّ سُـنّة حسنة فله أجرها وأجرُ مَن عمل بها "(صحيح مسلم 3 / 87). وقد بُني على مراقد الأنبياء قبل ظهور الإسلام وبعده، فلم ينكره النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا أحدٌ من الصحابة والخلفاء، كالقباب المبنيّة على قبر دانيال (عليه السلام) في شوشتر[1]، وهود وصالح ويونس وذي الكفل (عليهم السلام)، والأنبياء في بيت المقدس وما يليها، كالجبل الذي دُفن فيه موسى (عليه السلام)، وبلد الخليل مدفن سيّدنا إبراهيم (عليه السلام). بل الحجر المبنيّ على قبر إسماعيل (عليه السلام) وأُمّه رضي الله عنهـا. بل أوّل مَن بنى حجرة قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) باللَّبِـنِ ـ بعد أن كانت مقوّمة بجريد النخل ـ عمرُ بن الخطّاب، على ما نصّ عليه السمهودي في كتاب " الوفا "[2]، ثمّ تناوب الخلفاء على تعميرهـا[3]. وروى التباني واعظ أهل الحجاز، عن جعفر بن محمّـد، عن أبـيه، عن جدّه الحسـين، عن أبيـه عليّ، أنّ رسـول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) قال له: " والله لَـتُـقْـتَـلَـنَّ في أرض العراق وتُدفن بهـا. فقلت: يا رسول الله! ما لمن زار قبورنا وعمّرها وتعاهدها؟ فقال: يا أبا الحسن! إنّ الله جعل قبرك وقبر ولدَيك بقاعاً من بقاع الجنّة [وعرصة من عرصاتها]، وإنّ الله جعل قلوب نجباء من خلقه، وصفوة من عباده، تحنّ إليكم [وتحتمل المذلّة والأَذى]، فيعمرون قبوركم، ويكثرون زيارتهم تقرُّباً [منهم] إلى الله تعالى، ومودّة منهم لرسوله، [أُولئك يا عليّ المخصوصون بشفاعتي، الواردون حوضي، وهم زوّاري غداً في الجنّـة]. يا عليّ! مَن عمّر قبوركم وتعاهدها فكأَنّما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس... " إلى آخره [4]. ولا يخفى أنّ جعل معمِّر قبورهم كالمُعين على بناء بيت المقدس، دالٌّ على أنّ تعظيم مراقدهم تعظيم لشعائر الله سـبحانه. ونُـقل نحو ذلك ـ أيضاً ـ في حديثين مُعـتَـبَـرَين[5]، نقل أحدهما الوزير السعيد[6] بسـند، وثانيهما بسـند آخر. والسيرة القطعية ـ من قاطبة المسلمين ـ المستمرّة، والإجماع، يغنيان عن ذِكر الأحاديث الدالّة على الجواز. وما أعجب قول المفتين: " أمّا البناء على القبور فممنوع إجماعاً "!.. فإنّ مذهب الوهّابيّة ـ وهم فئة قليلة بالنسبة إلى سائر المسلمين ـ لم يظهر إلاّ قريباً من قرن واحد، ولا يتفوّه أحدٌ من المسلمين ـ سوى الوهّابيّة ـ بحرمة البناء، فأين الإجماع المـدّعى؟! ودعوى ورود الأحاديث الصحيحة على المنع ـ لو ثبت ـ غيرُ مُجْد لإثبات الحرمة ; لأنّ أخبار الآحاد لا تنهض لدفع السيرة والإجماع القطعي، مع أنّ أصل الدعوى ممنوع جدّاً. فإنّ مثل رواية جابر: "نهى رسول الله أن تُجَصّص القبور، وأن يُكتب عليها، وأن يُبنى عليها، وأن توطأ"[7] لا تدلّ على التحريم; لعدم حرمة الكتابة على القبور ووطئها، فذلك من أقوى القرائن على أنّ النهي في الرواية غير دالّ على الحرمـة، ولا نمنـع الكراهة في غير قبور مخصوصـة. مع أنّ الظاهرَ من قوله: " يُبنى عليها " إحداثُ بناء كالجدار على نفس القبر، فإنّ بناء القبّة وجدرانها بعيدة عن القبر، ليس بناءً على القبر على الحقيقة، وإنّما هو نوع من المجاز، وحمل اللفظ على الحقيقة حيث لا صارف عنها معيّن، مع أنّ النهي عن الوطء يؤكّد هذا المعنى، لا الذي فهموه من الرواية. وأمّا الاسـتدلال على وجوب هدم القباب بحديث أبي الهيّاج، فغير تامّ في نفسه ـ مع قطع النظر عن مخالفته للإجماع والسـيرة ـ ; لوجوه : الأوّل: إنّ الحديث مضطرب المتـن والسـند.. فتارة يذكر عن أبي الهيّاج أنّه قال: " قال لي عليٌّ " كما في رواية أحمد عن عبـد الرحمن[8] ... وتارة يذكر عن أبي وائل، أنّ عليّـاً قال لأبي الهيّاج [9] . ورواه عبـد الله بن أحمد في " مسند عليّ " هكذا: " لأَبعثنّـك في ما بعثني فيه رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، أنْ أُسوّي كلَّ قبر، وأنْ أطمسَ كلَّ صنم " [10]. فالاضطراب المزبور يسـقطه عن الحـجّـيّـة والاعتبار. الثاني: إنّه من الواضح أنّ المأمور به في الرواية لم يكن هدم جميع قبور العالَم، بل الحديث وارد في بعث خاصّ وواقعة مخصوصة، فلعلّ البعث قد كان إلى قبور المشركين لطمس آثار الجاهلية ـ كما يؤيّده ذِكر الصنم ـ، أو إلى غيرهـا ممّا لا نعرف وجه مصلحتها، فكيف يُتمسّك بمثل هذه الرواية لقبور الأنبـياء والأولياء؟! قال بعض علماء الشـيعة من المعاصرين : إنّ المقصود من تلك القبور، التي أمرَ عليٌّ (عليه السلام) بتسويتها، ليسـت هي إلاّ تلك القبور التي كانت تُـتّخذ قِـبلةً عند بعض أهـل الملل الباطلة، وتقام عليها صور الموتى وتماثيلهم، فيعبـدونها من دون الله. إلى أن قال: وليـت شِـعري لو كان المقصـود مـن القبـور ـ التي أمرَ عليٌّ (عليه السلام) بتسـويتهـا ـ هي عامّـة القبـور على الإطـلاق، فأين كان (عليه السلام) ـ وهو الحاكم المطلق يومئذ ـ عن قبور الأنبياء التي كانت مشـيَّدة على عهده؟! ولا تزال مشـيَّدة إلى اليوم في فلسطين وسورية والعـراق وإيران، ولو شاء تسويتها لقضى عليهـا بأقصـر وقـت. فهل ترى أنّ عليّـاً (عليه السلام) يأمر أبا الهيّاج بالحقّ وهو يروغ عنه فلا يفعله؟! إنتهى ما أردنا نقله منه. الثالث: قال بعض المعاصرين من أهل العلم: لا يخفى من اللغة والعُرف أنّ تسوية الشيء من دون ذِكر القرين المساوي معه، إنّما هو جَعْلُ الشيء متساوياً في نفسه، فليس لتسوية القبر في الحديث معنىً إلاّ جعله متساوياً في نفسـه، وما ذلك إلاّ جعلُ سطحه متساوياً. ولو كان المراد تسوية القبر مع الأرض، لكان الواجب في صحيح الكلام أن يقال: إلاّ سـوّيته مع الأرض. فإنّ التسوية بين الشـيئين المتغايرين لا بُـدّ فيها من أن يُذكر الشـيئان اللذان تُراد مُساواتهما. وهـذا ظاهـر لكـلّ من يعطي الكـلام حقّـه من النـظر، فـلا دلالة في الحديث إلاّ على أحد أمرَين: أوّلهما: تسـطيح القبور وجعلها متساوية برفع سـنامها، ولا نظر في الحديث إلى علوّها، ولا تشـبُّث فيه بلفظ (المشرِف)، فإنّ الشُّرَف إنْ ذُكِرَ أنّه بمعنى العلوّ، فقد ذُكر أنّه من البعير سـنامُه، كما في " القاموس " وغيره[11]، فيكون معنى (المشرِف) في الحديث هو: القبر ذو السـنام ; ومعنى تسويته: هدمُ سـنامه. وثانيهما: أن يكون المراد: القبور التي يُجعل لها شُرَفٌ من جوانب سطحها، والمراد من تسويته أن تُهدم شُرَفُه ويُجعل مسطّحاً أَجَمّ، كما في حديث ابن عبّـاس: أُمرنا أن نبنيَ المدائن شُـرَفاً والمساجدَ جُـمّـاً[12]. والـجُـمّ: هي التي لا شُـرَف لها. وعلى كلّ حال، فلا يمكن في اللغة والاستعمال أن يُراد من التسوية في الحديث أن يُساوى القبرُ مع الأرض، بل لا بُـدّ أن يُراد منه أحد المعنَيَـين المذكورَين. وأيضـاً: كيف يكون المراد مسـاواة القبـر مع الأرض، مع أنّ سـيرة المسـلمين المتـسلسلة على رفع القبـور عن الأرض؟! وفي آخر كتاب الجنائز من جامع البخاري، مسنداً عن سفيان التـمّار، أنّه رأى قبر رسـول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) مسـنَّماً [13] . وأسـند أبو داود في كتاب الجنائز، عن القاسم، قال: دخلـت على عائشة فقلـت: يا أمَـه! اكـشفي لي عـن قبـر رسـول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) وصاحبَـيه ; فكـشفت عن ثلاثة قبور لا مشرَّفة ولا لاطـئـة إنتهى ما أردنا نقله منه [14] . وأسند ابن جرير، عن الشعبي، أنّ كلّ قبور الشهداء مسـنَّمة [15] . وأقول بعد ذلك: لو كان قوله: " مشرِفاً " بمعنى عالياً، فليـس يعمّ كلّ قبر ارتفـع عن الأرض ولو بمقـدار قليـل، فإنّـه لا يصدق عليه القبر العالي، فإنّ العلوّ في كلّ قبر إنّما هو بالإضافة إلى سائر القبور، فلا يبعد أن يكون أمراً بتسوية القبور العالية فوق القدر المتعارف المعهود في ذلك الزمان إلى حدّ المتعارف ; وقد أفتى جمعٌ من العلماء بكراهة رفع القبرِ أزيـد مـن أربـع أصابـع [16] . ولتخصيص الكراهة ـ لو ثبت ـ بغير قبور الأنبياء والمصطَـفين من الأولياء وجـهٌ. الرابـع: لو سُـلِّم أيّ دلالة في الرواية، فلا ربط لها ببنـاء السقوف والقباب ووجوب هدمها، كما هو واضح. وأمّا قول السائل: " وإذا كان البناء في مسـبّلة ـ كالبقيع ـ وهو مانع... " إلى آخـره . فقد أجاب بعض المعاصرين عنه بما حاصله: أنّ أرض البقيع ليست وقفاً، بل هي باقية على إباحتها الأصلية، لو شككنا في وقفيّتها يكفينا استصحاب إباحتها. وأقول: بل وقفيّتها غير مانع عن البناء ; لأنّها موقوفةٌ مقبرةً على جميع الشؤون المرعيّة في المقابر، ومنها: البناء على قبور أشخاص مخصوصين كالأصفياء، فإنّ البناء على القبور ليس أمراً حديثاً، بل كان أمراً متعارفاً من قديم الأيّام. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1]- هي إحدى مدن مقاطعة خوزسـتان في إيران، ومُـعَـرَّبُـها: تُـسْـتَر ; انظر: معجم البلدان 2 / 34 رقم 2517. [2]- وفاء الوفا 2 / 481. [3]- وفاء الوفا 2 / 481 ـ 647. [4]- انظر: فرحة الغريّ: 77، وعنه في بحار الأنوار 100 / 120 ح 22. [5]- فرحة الغريّ: 78، وعنه في بحار الأنوار 100 / 121 ح 23 و 24. [6]- هو: أبو جعفر محمّـد بن محمّـد الحسن الطوسي، نصير الملّة والدين، قدوة المحقّـقين، سلطان الحكماء والمتكلّمين، وأمره في علوّ قدره، وعظم شأنه، وتبحّره في العلوم العقلية والنقلية، أشهر من أن يذكر ; وُزّر لهولاكو، وعمل له رصداً وزيجاً بمراغة، جعل فيه كـتباً كـثيرة، ورتّب فيه الحكماء من الفلاسفة والمتكلّمين والفقهاء والمحدّثين والأطبّاء وغيرهم; اتُّهم ظلماً بأنّه أشار على هولاكو بقتل الخليفة العبّـاسي، وليـس بصحيح، حتّى إنّ ابن كثير اسـتبعد ذلك. له مصنّفات كـثيرة، منها: تجريد الاعتقاد، قواعد العقائـد، تلخيص المحصّل، التذكرة في الهيئة، تحرير كتاب إقليدس، حلّ مشكلات الإشارات. وُلد في 11 جمادى الأُولى سنة 597 بطوس، وتوفّي يوم الغدير 18 ذي الحجّة سنة 672، ودُفن في جوار الإمامين موسى الكاظم ومحمّـد الجواد عليهما السلام. انظر: معجم رجال الحديث 18 / 204 رقم 11718. [7]- سنن الترمذي 3 / 368 ح 1052 . [8]- مسند أحمد 1 / 96 . [9]- مسند أحمد 1 / 129 . [10]- مسند أحمد 1 / 111 [11]- انظر مادّة " شرف " في: القاموس المحيط 3 / 162، لسان العرب 7 / 91. [12]- انظر: غريب الحديث 4 / 225، لسان العرب 7 / 91. [13]- صحيح البخاري 2 / 212 ح 145 . [14]- سنن أبي داود 3 / 212 ح 3220 . ولاطئـة: أي لازقة بالأرض ; انظر: لسان العرب 12 / 285 مادّة "لطـا". [15]- كنز العمّال 15 / 736 ح 42932 . [16]- منتهى المطلب 1 / 462 .

gate.attachment