لمحات من سيرة سيد الانبياء والمرسلين محمد (صلى الله عليه وآله)

اذا اردنا ان نتلمس ملامحَ شخصية النبي الاكرم محمد (صلى الله عليه واله) في جميع جوانب الحياة، لنأخذ منها الدرس والقدوة والاسوة، حيث ان صراحة القرآن كانت افضل دليل عرفه الانسان في حق النبي الاكرم محمد هو ما وصفه به ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾[1]، من هنا امره الله تعالى ان يتلقى المسلمين الجدد بصدر رحب ووجه طلق: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ  كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ(، وبذلك أصبح نبينا الاكرم أسوة حسنة في كل شيءٍ لجميع البشر، ولأجل ذلك قال الله تعالى ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾[2]، يبدو ان هناك ثلاثة شروط للاقتداء بالنبي الاعظم حسبما وصفها القرآن في هذه الآية، فالأول والثاني ان نرجو الله واليوم الاخر ونعتقد بأنها حق وليست بكذب، وان هذه الدنيا ليست نهاية حياتنا ومصيرنا، بل هي بداية مسيرتنا الى دار الخلد، اما الشرط الثالث ﴿وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ يعني ان لن نغفل عن ذكر الله مهما كانت الظروف. وان هناك اوصاف في القرآن الكريم ذكرت صراحة واخرى ذكرت اشارة ومن هذه الاوصاف هي :-

طهارة النسب :

وردت روايات كثيرة حول طهارة نسب النبي الاكرم  من النبي آدم (عليه السلام) إلى جده عبد المطلب وأولاده عبد الله , وقد جاء ذلك في تفسير قوله تعالى ] وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ(  أي ينقلك من طاهر إلى طاهر, يعني في أصلاب النبيين, وهو أكرم خلق الله وأحبهم إلى الله, لم يخلق الله ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً , من آدم فمن سواه , خيراً عند الله , ولا أحب منه, يقعده يوم القيامة على عرشه ويشفعه من كل شفع فيه , وباسمه جرى القلم في اللوح المحفوظ في أم الكتاب[3]، وقال (صلى الله عليه واله):"  لم يزل ينقلني من أصلاب الطاهرين , إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا" [4]. وكذلك روى عن الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) في تأويل قوله تعالى )وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء( [5]  قال (عليه السلام): "المقصود من كلمة السماء في الباطن هو رسول الله (صلى الله عليه واله)"[6] .

أما كيفية خلق النبي الاكرم محمد (صلى الله عليه واله),  تشير الروايات عن الإمام محمد بن علي الباقر(عليه السلام) قائلا: "كان الله لا شيء غيره , ولا معلوم , ولا مجهول, فأول ما ابتدأ من خلق خلقه, أن خلق محمداً"[7]

 وهناك سؤال يطرح نفسه، ما العلة من بعث الأنبياء (عليهم السلام), يكون الجواب على ذلك بقوله تعالى ] كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ([8]، إذاً الهدف البشارة للصالحين بالجنة, والويل والخلود في النار للمفسدين, ولهذا بعث الله (عزوجل) مائة وأربعة وعشرون ألف نبي.

تبين الروايات التاريخية ان الطينة التي خلق منها النبي الاكرم محمد (صلى الله عليه واله) مميزة عن غيرها , وهذا ما اكده الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) بقوله "... أن الله خلق الناس ثلاث أصناف وهو قول الله تعالى ]كُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً* فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ* وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ* وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ( فالسابقون هو رسول الله  وخاصة الله من خلقه جعل فيهم خمسة أرواح أيدهم بروح القدس فيه بعثوا أنبياء وأيدهم بروح الإيمان وبه خافوا الله وأيدهم بروح القوة وبه قووا على طاعة الله  وكرهوا معصيته وجعل فيهم روح المدرج الذي يذهب به الناس ويجيئون وجعل في المؤمنين أصحاب الميمنة روح الإيمان وبه خافوا الله وجعل فيهم روح القوة وبه قووا على الطاعة من الله وجعل فيهم روح المدرج التي يذهب الناس به ويجيئون"[9] .

وصف النبي الاعظم محمد(صلى الله عليه واله)

وقد وصف النبي الاعظم(صلى الله عليه واله) بصفات كثيرة ، كان من أهمها بياض وجهه الكريم, إذ روى عن الإمام محمد بن علي الباقر: "كان  ابيض مشرب بحمرةٍ , ادعج العينين, مقرون  الحاجبين، شثن الإطراف ، كأن الذهب افرغ على براثنه، عظيم مشاشة المنكبين، إذا التفت يلتفت جميعاً من شد استرساله، سربته سائله من لبته إلى سرته، كأنها وسط الفضة المصفاة، وكأن عنقه إلى كاهله ابريق فضة، يكاد انفه إذا شرب أن يرد الماء وإذا مشى تكفأ كأنه ينزل في صبب لم ير مثل نبي الله  قبله ولا بعده" [10]، اذن من يطالع سيرته ويتأمل في اخلاقه وحسن سيرته سيجد أنها اخلاق القرآن تماماً لا ينازعه فيها احد، وذلك روي عنه "صلى الله عليه واله" كان يمشي هوناً... اذا مشى كأنما ينحط من صبب، اذا التفتَ التفتَ جميعاً، خافض الطرف، نظرهُ الى الارض أطول من نظره الى السماء، جُل نظره الملاحظة يسوق اصحابه ويبدر من لقي السلام [11] .

النبي الاكرم والعبادة

وعندما نبحث في جميع جوانب حياة النبي الاعظم (صلى الله عليه واله) لنلاحظ كيف جسد علاقته العبودية والطاعة والخضوع والتسليم لله تعالى، في كل جانب من جوانب الحياة، السؤال الذي يطرح نفسه كيف كانت علاقته مع الله تعالى في مسألة الصلاة والدعاء وتلاوة القرآن؟،  يمكن القول ان النبي الاكرم كان يفهم تلك الممارسات العبادية على حقيقتها، فلنأخذ الصلاة على سبيل مثال لا الحصر، كيف كان النبي الاكرم يترجمها وينتظر حلول وقتها ؟ ، قد كان النبي الاعظم (صلى الله عليه واله) حينما يحين وقت الصلاة  يقول:" قم يا بلال ، فأرحنا بالصلاة" [12] ، اي قُم فأذن لكي تبتدئ الصلاة، حتى تزيل عن هذه النفس همومها ومتاعبها.

تشير الروايات التاريخية سئلت ام سلمة عن صلاة النبي الاكرم في الليل قالت: "مالكم وصلاته ؟ كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى ،ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح"[13] ، هل نقتدي بالنبي الاكرم ونتوجه الى صلاتنا حينما يحضر وقت الصلاة؟ فان كنا كذلك، فنحن في الحقيقة قد جسدنا العبودية كما بينها (صلى الله عليه واله) وجسدها في سيرته وسلوكه، وجعلنا من النبي الاكرم قدوة واسوة لنا.

اما في صومه (صلى الله عليه واله) فلم تكن ممارسته لهذه العبادة على انها حرمان للجسد من ملذات الطعام والشراب والمواقعة، بل كانت ممارسة نابعة عن الوعي والادراك لحقيقة هذه العبادة وجوهرها، وان المقصود منها هو تقوية الارادة وتهذيب النفس وتربيتها على الفضائل وتنزيهها عن الرذائل. فكان اكثر صيامه من الشهور في شعبان وكان يقول:" شعبان شهري ورجب شهرك يا علي ورمضان شهر الله تعالى" وأما في شهر رمضان فيكون للنبي شان آخر في صومه فعن الامام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال:" كان رسول الله اذا كان العشر الاواخر اعتكف في المسجد، وضُربت له قبه من شعر، وشمر المئزر، وطوى فراشه" [14] .

وأما الدعاء فهو في الحقيقة تعبير من المؤمن عن احتياجه الدائم لله تعالى في جميع اموره وخضوع له وتسليم بهيمنته وسلطانه، وذلك كان النبي الاكرم لا يفتر عن الدعاء في جميع اوقاته، فكما ورد عن النبي الاعظم (صلى الله عليه واله):" ألا أدلكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم ويدر أرزاقكم؟" قالوا: بلى، قال:" تدعون ربكم بالليل والنهار، فإن سلاح المؤمن الدعاء" [15] .  وأما تعامله (صلى الله عليه واله) مع أمته سواء أكان مع أفراد أسرته أم مع أفراد مجتمعه، فكان يتسم بسمو الاخلاق، من العطف والحنان والرعاية والتوقير للكبير واحترام الصغير والتحلي بآداب المجالسة الايمانية وقد جاءت الاشارة الى هذا المعنى " المجالس بالأمانات، وانما يتجالس الرجلان بأمانة الله عز وجل، فاذا افترقا فليستر كل واحد منهما حديث صاحبه"[16]، وقد كان رسول الله خير من تحدث في المجالس وبين حقوقها وحفظها، وهذا ما بينه الامام الحسين (عليه السلام) ، فانه سال أباه أمير المؤمنين (عليه السلام)، عن مجلس النبي الاكرم (صلى الله عليه واله)  قائلاً: "لا يَجْلِسُ وَلا يَقُومُ إِلا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَلا يُوَطِّنُ الأَمَاكِنَ، وَيَنْهَى عَنْ إِيطَانِهَا، وَإِذَا انْتَهَى إِلَى قَوْمٍ جَلَسَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ، وَيَأْمُرُ بِذَلِكَ، وَيُعْطِي كُلَّ جُلَسَائِهِ بِنَصِيبِهِ، لا يَحْسِبُ جَلِيسُهُ أَنَّ أَحَدًا أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُ، مَنْ جَالَسَهُ أَوْ قَاوَمَهُ فِي حَاجَةٍ صَابَرَهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُنْصَرِفَ، وَمَنْ سَأَلَهُ حَاجَةً لَمْ يُرَدَّ إِلا بِهَا أَوْ بِمَيْسُورٍ مِنَ الْقَوْلِ، قَدْ وَسِعَ النَّاسَ مِنْهُ بَسْطَتُهُ وَخُلُقُهُ، فَصَارَ لَهُمْ أَبًا ..."[17].

وفاته (صلى الله عليه واله)

شاء الله سبحانه وتعالى أن يستأثر برسوله الاعظم (صلى الله عليه وآله) وينقله الى جواره في الثامن والعشرين من شهر صفر سنة 11هـ على وفق اوثق الروايات التي وصلت الينا، وتولى أمير المؤمنين علي بن ابي طالب "عليه السلام" غُسله وتجهيزه، كما اجتمعت على ذلك أغلب مصادر المسلمين وأرباب التاريخ. 

فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: "  لما غمض رسول الله قال: إنا لله وإنا إليه راجعون ، يا لها من مصيبة خصت الأقربين وعمت المؤمنين لم يصابوا بمثلها قط ، ولا عاينوا"  فلما وضع رسول الله في القبر سمعوا منادياً ينادى من سقف البيت ) إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [18] (  .

ويختم امير المؤمنين قوله عن تجهيز النبي الاكرم ودفنه بقوله" اني كنت آخر الناس عهدا برسول الله ودليته في حفرته" [19] ، فحفر له لحداً، ودخل أمير المؤمنين ليتولى دفن النبي(صلّى الله عليه وآله) فنزل القبر ووضع أمير المؤمنين رسول الله على يديه ، فكشف عن وجه "صلّى الله عليه وآله" ووضع خده على الأرض موجهاً إلى القبلة على يمينه ثم وضع عليه اللبن وأهال عليه التراب[20].

 وعليه نستنتج من ذلك ، ان نقف عند هذه الصفات الكريمة التي تحلى بها نبينا الكريم وان نتمثل ونقتدي بها وان نحث ابناء الامة على التخلق بها، والسير على هديها واتباع منهجها والتشبه بها، فنبينا كان قرآنا يمشي بين الناس ينشر الفضيلة والقيم والمثل التي دعا لها الله سبحانه وتعالى ، وان يُحيي ذكرى النبي الاكرم فلا يكتفي بحضور هذه المناسبة ، بل ان احياءك الحقيقي حينما تسمع مثل هذه الاحاديث ومثل هذه السيرة، ثم بعد ذلك تجسدها في حياتك اليومية. 

جعفر رمضان

 

[1] سورة القلم، الآية 4.

[2] سورة الاحزاب: الآية 21.

[3] سليم بن قيس الهلالي، كتاب سليم ، تحقيق، محمد باقر الانصاري ,( قم ، 1415 هـ )، ص 253.

[4] المفيد : أوائل المقالات،  45.

[5] سورة الأعراف ، الآية  11.

[6] أبو النضر محمد بن مسعود بن عياش السلمي السمرقندي العياشي ، تفسير العياشي، تحقيق : هاشم الرسولي المحلاتي, (طهران, 1440ه) ج2 ، ص 55 .

[7] جعفر بن محمد القمي ،  كامل الزيارات، تحقيق جواد القيومي, (قم: مؤسسة النشرالأسلامي,1417هـ )، ص 114 .

[8] سورة البقرة ، ص 213

[9] محمد بن الحسن الصفار،  بصائر الدرجات، (قم : نشر مكتبة الوجداني، 1404)، ص466

[10] محمد بن يعقوب بن اسحاق الكليني ، الكافي ، تحقيق: علي اكبر غفاري ،(قم: منشورات دار الكتب الإسلامية ،1388 هـ) ،ج1 ، ص 265 .

[11] رضي الدين ابي نصر الحسن بن المفضل الطبرسي، مكارم الاخلاق،( الكويت: مكتبة الالفين،)، ص11-16.

 [12] احمد بن حنبل، مسند احمد بن حنبل، تحقيق شعيب الارناؤوط، (بيروت: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر) ج38،  ص255. 

 [13] سنن ابي داوود تحقيق يعيد محمد اللحام،(بيروت: دار الفكر، 1990)، مج 1، ص 330

[14] أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي ، من لا يحضره الفقيه،( بيروت :مؤسسة الأعلمي، 1986)، ج2، ص184.

[15] ابي جهفر محمد بن الحسن الطوسي، الامالي، تحقيق علي اكبر الغفاري،( طهران: دار الكتب الاسلامية ، 1381)، ص137-139. 

[16] ابن عبد البر ،أدب المجالسة،(  طنطا : دار الصحابة للتراث،1989)،ص 29-30.

[17] سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني، الأحاديث الطوال،( الموصل: مكتبة الزهراء ،1983) ، ص 76-77.

[18] سورة الأحزاب / 33.

[19] أبو جعفر محمد بن علي ابن بأبويه القمي الصدوق ، الخصال، تحقيق علي أكبر غفاري،( قم المقدسة: مؤسسة النشر الاسلامي)، ص 572.

[20] علي بن الحسين الهاشمي، المطالب المهمة في تاريخ النبي والزهراء والائمة،( النجف الاشرف: منشورات المكتبة الحيدرية،1388هـ)، ص11-12. 

 

 

gate.attachment