الامر الإلهي بتقوى الله والاعتصام بحبله والنهي عن التفرقة

قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (*) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا... } آل عمران : 102 ـ 103

ان مجرد اعتناق الاسلام والانضمام الى الدين لا يكفي في ذلك، انما المهم ان يحافظ المرء على اسلامه وايمانه واعتقاده الى اللحظة الاخيرة من عمره وحياته، فلا يبدد هذا الايمان بإشعال الفتن واثارة نيران البغضاء او الانسياق وراء العصبيات الجاهلية الحمقاء والضغائن المندثرة، فتكون عاقبته الخسران وضياع كل شيء، ولهذا قال تعالى : { وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }.

ومن اجل قيام الوحدة بين المسلمين لابد من تحقيق ركيزتان فاذا انهارت واحدة منهما لم تبق هناك امة تقوم بدورها.

الركيزة الاولى : تقوى الله :

التقوى : تعني كل فعل الواجبات، وترك واجتناب المحرمات، ومنها يترتب عليها التكليف، لأن ما لا يستطاع لا يتناوله التكليف، وكل ما لا يمكن التكليف به، فهو بعيد عن التقوى واجنبي عنها. وفي هذا المعنى قال الاصوليون : قبح العقاب بلا بيان. أي ما لم يكن هناك خطابا إلهيا يكلف به العبد، فلا معنى ان نقول: ان الإنسان لم يتق الله، لأنها سالبة بانتفاء الموضوع.

والتقوى تكون مقدمة للاتحاد والتآخي بين المسلمين، ومنها ينطلق لمعالجة جذور الاختلاف واضعاف العوامل المسببة للتنازع في ضوء الايمان والتقوى قال تعالى: { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ }.

في الدر المنثور: اخرج الخطيب عن انس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (( لا يتقى الله عبد حقّ تُقاته حتى يعلم ان ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه )).

 وفي تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب عن تفسير وكيع عن عبد خير قال: سألت علي بن ابي طالب عن قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ }، قال: ( والله ما عمل بها غير بيت رسول الله، نحن ذكرناه فلا ننساه ونحن شكرناه فلن نكفره، ونحن اطعناه فلم نعصه، فلما نزلت هذه الآية قال الصحابة: لا نطيق ذلك، فأنزل الله: فاتقوا الله ما استطعتم، قال وكيع: ما اطقتم ) الحديث .

وفي معاني الاخبار وتفسير العياشي عن ابي بصير قال: سألت ابا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } قال: (يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر).

اذن بدون هذه الركيزة يكون كل مجتمعا جاهليا، لأنه انما تكون مناهجه جاهلية، فلا تكون هناك قيادة راشدة في الارض للبشرية، انما تكون القيادة للجاهلية، كما هو الحال اليوم.

الركيزة الثانية: الاخوة في الله :

هذه الركيزة تنبثق من التقوى بالإسلام، وتبنى على اساسين:

الاول: الاتحاد والاعتصام بحبل الله.

بعد ان اوصى الإسلام بتقوى الله وبملازمة اعلى درجات التقوى، دعاهم بصراحة الى الاعتصام بحبل الله المتمثل بعنوان الاتحاد، والوقوف بوجه التجزئة وايجاد الفرقة وممارساتها.

وهنا يطرح السؤال التالي: ما المراد من حبل الله في قوله تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا }؟

الجواب: كما ذهب اليه المفسرون فيه ثلاثة احتمالات مختلفة:

منهم من قال: بانه القرآن.

ومنهم من قال: بانه الإسلام.

ومنهم من قال: بانهم الأئمة المعصومون من آل الرسول وأهل بيته المطهرون. الامثل : ج2 ص377 .

وقد وردت كل هذه المعاني في الروايات المنقولة عن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة من اهل بيته (عليهم السلام)، ففي تفسير الدر المنثور عن النبي (صلى الله عليه وآله) في قوله تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا } الآية ، اخرج ابن ابي شيبة وابن جرير عن ابي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله: (( كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء الى الارض )).

وفي الدر المنثور اخرج الطبراني عن زيد بن ارقم، قال: قال رسول الله: (( اني لكم فرط، وانكم واردون عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين؟

قيل: وما الثقلان يا رسول الله؟

قال: الاكبر كتاب الله عزّ وجلّ، سبب طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم فتمسكوا به لن تزالوا ولن تضلوا، والاصغر عترتي، وانهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، وسألت لهما ذاك، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تعلموهما فإنهما أعلم منكم )). الدر المنثور: ج2 ص 60.

 وفي كتاب معاني الاخبار عن الإمام السجاد انه قال: ( وحبل الله هو القرآن ). عيون اخبار الرضا : ج2 ص 130

وفي تفسير العياشي عن الإمام الباقر (عليه السلام) انه قال: ( آل محمد هم حبل الله الذي أمرنا بالاعتصام به فقال: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا }. تفسير العياشي : ج1 ص 102 و 194 .

 ولو دققنا في هذه الاقوال الثلاثة لم يكن هناك أي تضارب بينها، لأن المراد من حبل الله هو كل وسيلة للارتباط بالله تعالى وبهذه الثلاث يتحقق الارتباط بالله تعالى بالقرآن، وبالإسلام، وبالنبي وأهل بيته (عليهم السلام ) الطاهرين.

نكته لطيفة:

 لماذا التعبير بالحبل؟

لان الحبل هو السبب الذي يوصل به الى البغية، كالحبل الذي يتمسك به للنجاة من بئر او نحوها، ومنه الحبل للأمان لأنه سبب النجاة، قال الأعشى:

واذا تجوزها حبال قبيلة ... أخذت من الأخرى إليك حبالهــــــــــــا .   

جاء في تفسير الأمثل: ( ان الإنسان سيبقى في حضيض الجهل، والغفلة وفي قاع الغرائز الجامحة اذا لم تتوفر له شروط الهداية، ولم يتهيأ له الهادي والمربي الصالح فلابد للخروج من هذا القاع، والارتفاع من هذا الحضيض من حبل متين يتمسك به ليخرجه من بئر المادية والجهل والغفلة، وينقذه من اسر الطبيعة، وهذا الحبل ليس إلا حبل الله المتين، وهو الارتباط بالله عن طريق الأخذ بتعاليم القرآن الكريم والقادة الهداة الحقيقيين التي ترتفع بالناس من الحضيض الى اعلى الذرى في سماء التكامل المادي والمعنوي ) . ج 2 ص 378

الثاني: النهي عن الفرقة.

ان للفرقة أثر سلبي على الواقع الاجتماعي، والابتعاد عن عهد الله ونهجه ودينه، ولذا اكد القرآن الكريم النهي عن ذلك، وقال: { وَلَا تَفَرَّقُوا }. لان من الآثار السلبية المترتبة على الفرقة هي تمزق وحدة المجتمع وفك عرى الأخوة وفقدان الأمن والأمان فيه.

وبناء على ما تقدم فان الدرس التربوي المستفاد من القرآن الكريم في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (*) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا }، النهوض بالمجتمع ليكون مجتمعا صالحا يتقبل الفيوضات الإلهية، فينعكس ذلك على واقعه الديني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي وغير ذلك مما له اثر ايجابي عليه. بعد ان كان مجتمعا جاهليا متفرقا يعيش البغضاء والحروب المتطاولة، قال تعالى : { واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم اعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخوانا }.

 وهنا يطرح السؤال التالي: أي جماعة من المسلمين يجب التعاون معهم ويحرم الخروج عليهم؟

 ان الجماعة التي يجب التعاون معهم ويحرم الخروج عليهم، هم الذين اجتمعوا وتعاونوا على ما فيه رضا الله تعالى وللناس صلاح، اما الذين اجتمعوا على الاثم والعدوان ـ أي على معصية الله والاضرار بالناس ـ فيحرم الاجتماع معهم واللقاء بهم.

 قال الإمام علي (عليه السلام): ( الفرقة أهل الباطل وان كثروا، والجماعة أهل الحقّ وان قلوا ). فمتى ما دام هناك علاقة ورابطة نسبية بين المسلمين فينبغي عدم التفريط بها، لأن يد الله مع جماعة الحقّ، قال الإمام علي (عليه السلام) : ( لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة من يسلكه. واتبعوا الحقّ وأهله حيث كانوا ).

الكاتب: السيد زكي الموسوي

gate.attachment