شهادة فصحاء العرب وأرباب البلاغة في بلاغة القرآن الكريم

اعتراف فصحاء العرب وبلغائهم بتفوق القرآن الكريم على سائر ما يؤثر من كلام البشر، وسواء عثرنا على شهادة من شعراء وأدباء العصر أم لم نعثر فإنه لا قيمة لتلك الشهادة إزاء عشرات الشهادات والتأييدات التي قيلت في عظمة القرآن الكريم من قبل أدباء وشعراء العرب الأوائل فإنهم أقرب إلى واقع اللغة العربية وأسرارها من هؤلاء المحدثين والمعاصرين الذين لا يتحدثون بالفصحى إلا حينما يكتبون، أما في حياتهم الاجتماعية والأسرية فإنهم يتكلمون باللهجات المحلية فكيف يمكن أن تكون لشهادة هؤلاء قيمة؟

وسنذكر طرفاً مما قاله فصحاء العرب وأدباؤهم الذين عاصروا نزول القرآن حينما كانت اللغة العربية في أوج مجدها:

روي عن ابن عباس قال: ((جاء الوليد بن المغيرة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوكه لأن لا تأتي محمداً ولتعرض لما قاله.

قال (الوليد): قد علمت قريش إني من أكثرها مالاً. قال (أبو جهل): فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك كاره له. قال (الوليد): وماذا أقول؟ فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته...)).

وروي أن أبا جهل قال في ملأ من قريش: ((قد التبس أمر محمد، فلو التمستم رجلاً عالماً بالشعر والكهانة والسحر، فكلمه ثم أتاه ببيان عن أمره)) فقال عتبة: ((والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر وعلمت من ذلك علماً، وما يخفى علي))، فأتاه، فاسمعه الرسول أوائل سورة فصلت، فلما بلغ قوله: (( صَاعِقَةً مِّثلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ )) (فصّلت:13) أمسك عتبة على فيه (أي على فم النبي (صلى الله عليه وآله ) وناشده الرحم، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش، فلما احتبس عنهم قالوا: ما نرى عتبة إلا وقد صبأ، فانطلقوا إليه وقالوا: يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت. فغضب وأٌقسم لا يكلم محمداً أبداً، ثم قال: والله لقد كلمته فأجابني بشيء، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، ولما بلغ (( صَاعِقَةً مِثلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ )) (فصلت: 13). أمسكت بفيه وناشدته الرحم، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب)).

وفي حديث إسلام أبي ذر: وصف أخاه أنيساً فقال: ما سمعت بأشعر من أخي أنيس، لقد ناقض اثني عشر شاعراً في الجاهلية أنا أحدهم، وإنه انطلق إلى مكة وجاءني بخبر النبي، قلت: فما يقول الناس؟ قال يقولون: شاعر، ساحر، كاهن، لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعته على أقراء فلم يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شاعر، وإنه لصادق، وإنهم لكاذبون.

وروي أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ: (( فَاصدَع بِمَا تُؤمَرُ وَأَعرِض عَنِ المُشرِكِينَ )) (الحجر:94).سجد وقال: سجدتُ لفصاحته.

وما يتصل بهذا ما روي أن أعرابياً سمع آخر يقرأ: (( فَلَمَّا استَيأَسُوا مِنهُ خَلَصُوا نَجِيّاً )) (يوسف:80).

فقال: أشهد أن مخلوقاً لا يقدر على مثل هذا الكلام.

وحكى الأصمعي قال: رأيت بالبادية جارية خماسية أو سداسية وهي تقول:

استغفر الله لذنبي كله  *****  قتلت إنساناً لغير حِله

مثل غزالٍ ناعم في دَلّه  *****  فانتصف الليل ولم أُصلّه

فقلت لها: قاتلك الله ما أفصحك! فقالت: أتعد ذلك فصاحة بعد قول الله عز وجل: (( وَأَوحَينَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَن أَرضِعِيهِ فَإِذَا خِفتِ عَلَيهِ فَأَلقِيهِ فِي اليَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرسَلِينَ )) (القصص:7).

فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.

وروي أن ابن المقفع طلب معارضة القرآن ورامه وشرع فيه، فمر بصبي يقرأ: (( وَقِيلَ يَا أَرضُ ابلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمرُ وَاستَوَت عَلَى الجُودِيِّ وَقِيلَ بُعداً لِلقَومِ الظَّالِمِينَ )) (هود:44).

فرجع فمحا ما عمل، وقال: أشهد أن هذا لا يُعارض وما هو من كلام البشر، وكان ابن المقفع من أفصح أهل وقته.

وشهد له حسان بن ثابت في بعض شعره حيث قال:

الله أكرمنا بنصر نبيه   *****  وبنا أقام دعائم الإسلام

وبنا أعز نبيه وكتابه  *****  وأعزنا بالضرب والإسلام

ينتابنا جبريل في أبياتنا  *****  بفرائض الإسلام والأحكام

يتلو علينا النور فيها محكماً *****  قسماً لعمرك ليس كالاقسام

ويروى أن القصائد الجاهلية كانت معلقة على الكعبة، فأنزلتها العرب لفصاحة القرآن إلا معلقة امرئ القيس فإن أخته أبت ذلك عناداً، فلما نزلت آية: (( وَقِيلَ يَا أَرضُ ابلَعِي مَاءَكِ )) (هود:44).

قامت إلى الكعبة فأنزلت معلقة أخيها.

gate.attachment