معرفة الناسخ والمنسوخ وأثر ذلك في تفسير الآيات القرآنية

ما هو الناسخ والمنسوخ؟

الناسخ والمنسوخ من أهم مباحث علوم القرآن التي يجب أن يحيط بها المفسر علماً, لأن معرفة ذلك ذات أهمية كبرى؛ لما لهذا العلم من الأثر البارز في بيان المراد من كلام الله تعالى, فهو متعلق بنصين من القرآن الكريم, يتفرع عليهما حكمان متغايران في النفي والإثبات, فالنفي يكون للمنسوخ, والإثبات يكون للناسخ, وعلى هذا يكون المنسوخ مرفوعاً, أو منتهي الأمد, والناسخ رافعاً, أو مثبتاً لحكم جديد للموضوع ذاته, وذلك بحسب طبيعة النص القرآني في الأحكام والقضايا والحوادث.

فقد ذكر ابن الجوزي عن أمير المؤمنين عليه السلام: أنه «مرّ بقاصّ [بقاضِ] فقال: أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال لا. قال: هلكت وأهلكت»( ابن الجوزي: نواسخ القرآن / 29), مما يوحي بتشدد الإمام عليه السلام - وهو الحافظ للشريعة - في وجوب معرفة الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم, لمن أراد العمل بالقرآن واستيضاح الخطاب الإلهي فيه.

الاختلاف في موارد الناسخ والمنسوخ:

وقد وقع الخلاف في كثيرٍ من موارده, من حيث العلاقة بين الآيتين من جهة التباين الكلي أو الجزئي بينهما, ومن حيث تاريخ نزول الآيتين من ناحية التقدم والتأخر، وقد مرّ إطلاق النسخ عند علماء القرآن والمفسرين بمراحل متعددة من التطور, وهذه المراحل تبدأ منذ العصور الأولى لهذا العلم، حيث كان يطلق بعض الصحابة كلمة النسخ على مجرد مخالفة آية لأخرى في الظهور اللفظي، حتى لو كانت هذه المخالفة على نحو العموم والخصوص من وجه أو نحو التخصيص، أو كانت إحدى الآيتين مطلقة والأخرى مقيدة.

سبب هذا الاختلاف:

ولعل ذلك نتيجة للتوسع في فهم أصل الفكرة، كما يمكن أن تكون نتيجة الفهم الأولي لأول وهلة لبعض الآيات القرآنية. ومن هنا وقع الاختلاف بين العلماء في تعيين الآيات المنسوخة والآيات الناسخة(أبو القاسم الخوئي: البيان في تفسير القرآن/ 277).

وبعد أن قطع العلماء في هذا المضمار شوطاً ليس بالقريب, عنّ لهم ما اعتمدوه مصطلحا, ولما تقدم قد يُعذر من قال بالنسخ من الماضين في مواضع ليست منه على ما اصطلح عليه المتأخرون, حيث إن أكثرهم لا يقصد بالضرورة رفع مثل الحكم الثابت للآية المتقدمة بالآية المتأخرة.

فالنسخ في اللغة:

بمعنى الإزالة والنقل, قال الجوهري: «نسخت الشمس الظل وانتسخته: أزالته. ونسخت الريح آثار الدار»( الجوهري: الصحاح 1/ 433).

والنسخ اصطلاحاً:

«هو رفع أمر ثابت في الشريعة المقدسة بارتفاع أمده وزمانه، سواء أكان ذلك الأمر المرتفع من الأحكام التكليفية أم الوضعية، وسواء أكان من المناصب الإلهية أم من غيرها من الأمور التي ترجع إلى الله تعالى بما أنه شارع».( أبو القاسم الخوئي: البيان في تفسير القرآن/ 277).

 أو هو بيان إيقاف استمرار حكم الآية لحكمة يقتضيها التشريع, معلومة له تعالى, وينتج عن ذلك اختلاف الفهم إذا ثبت النسخ بين الآيتين أو لم يثبت, ما دامت هناك علقة بين الآيتين تقتضي الجمع بين مفاديهما ومعالجته, ولو كان بالمعنى التبعي الإلتزامي للنص, فالألفاظ إما أن تدل بمنطوقها أو بفحواها أو باقتضائها وضرورتها أو بمعقولها المستنبط منها, فالأول دلالة المنطوق والثاني دلالة المفهوم والثالث دلالة الاقتضاء والرابع دلالة الإشارة( السيوطي-الإتقان: 2/87).

أثر الناسخ والمنسوخ في فهم الخطاب القرآني:

لذا أولى المفسرون العناية في علم الناسخ والمنسوخ لما له من الأثر الكبير في بيان المراد من الخطاب في القرآن الكريم, فمنهم من بنى على القول بما تحقق في علم الأصول بأن النسخ على خلاف الأصل فكان الأولى عنده صيانة الحكم من النسخ مهما أمكن, ولابد من تتبع الموارد التي قيل بالنسخ فيها ليعالج ما إذا كان نسخاً أو تخصيصاً أو بياناً أو غير ذلك, فإن دلالة النص المجعولة من قبل الحكيم قد لا تكون الغاية منها المتعلق الحقيقي للأمر أو النهي، كالأوامر التي يقصد بها الامتحان.

وهذا النوع من الأحكام يمكن إثباته أولاً ثم رفعه، ولا مانع من ذلك، فإن كلاً من الإثبات والرفع في وقته قد نشأ عن مصلحة وحكمة، وهذا النسخ لا يلزم منه خلاف الحكمة، وقد تكون دلالة النص المجعولة دلالة حقيقية، ومع ذلك ينسخ بعد زمان، لا بمعنى أن الدلالة ترفع بعد ثبوتها في الواقع ونفس الأمر، كي يكون مستحيلا على الحكيم العالم بالواقعيات، بل هو بمعنى أن تكون الدلالة المجعولة مقيدة بزمانٍ خاص معلوم عند الله، مجهول عند الناس، ويكون ارتفاعها بعد انتهاء ذلك الزمان، لانتهاء أمدها الذي قيدت به، وحلول غايتها الواقعية التي أنيطت بها(الخوئي: البيان في تفسير القرآن/ 279-280).

وهذا كله من مناشئ التنوع في الفهم تبعاً للروايات الواردة في نسخ الآيات, على وفق الضوابط المختلفة في قبول الرواية وردّها, وبحسب المباني في القول بالنسخ مطلقاً أو في خصوص آية أو آيات من دون غيرها أو المنع منه مطلقاً, أو التفصيل, فزعم بعض السلف أن آيات الإذن في القتال نسخت جميع آيات الصبر والعفو والإعراض والصفح(الناسخ والمنسوخ: 190).

 قال ولي الله الدهلوي (ت1180هـ): «بلغ عدد الآيات المنسوخة بآيات السيف قرابة الخمسمائة، ولو تأملت لوجدتها غير محصورة، والمنسوخ باصطلاح المتأخرين عدد قليل»( الفوز الكبير في أصول التفسير: 53- 54).

ومنهم من نفى وقوع النسخ مطلقاً(البيان في تفسير القرآن/ 279.).

أهمية معرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ:

ولما كان المراد بالنسخ: «أحلال حكم مكان حكم لمصلحةٍ معلومة أو مجهولة فالناسخ هو المتأخر نزولاً في القرآن والمنسوخ هو المتقدم نزولاً في القرآن»( المبادئ العامة في تفسير القرآن الكريم/55).

فيكون لمعرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ أهمية مزيدة حيث أن المتأخر ينسخ المتقدم ويرفع مثل حكمه لما يأتي, فيسهم في تغاير الفهم أيضاً. وقد تقتضي الحكمة أن يكون مفاد آية نسخ مفاد غيرها الأسهل بما هو أثقل وأشق بما يوافق التدرج أو غير ذلك, وقد يكون بالأخف لانتفاء الحاجة إلى الكلفة الزائدة على الأول لدواعي الحكمة أيضاً، وهو ما يعبّر عنه بالنسخ بالأخف إلى غير ذلك من التخيير ونسخ الوجوب بمعين, نسخ الموسع بالمضيق(عدة الأصول: 2/49296).

مثال لتوضيح أهمية فهم الناسخ والمنسوخ:

ومن أمثلة تنوع الفهم الذي ترتب على القول بالنسخ ما في قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ). (سورة البقرة: 183-184).

فقد قيل إنما عني بعشرة أيام من المحرم، وكان الفرض التخيير بين الصوم والإطعام، ثم نسخ بقوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ).( سورة البقرة: 185).

فحتم على الصوم لا غيره (الخلاف: 2 / 161 – 162).

وقيل: المراد بالآية شهر رمضان، إلا أنه نسخ فرض التخيير إلى التضييق(المجموع: 6/ 250), وذلك أن الأمر ظاهر فيها، وليس فيه أنه كان غير شهر رمضان. وقيل أن التخيير الذي فيها منسوخ بلا خلاف في شهر رمضان، لذا توقف الطوسي وهو من فقهاء المفسرين في فهم ما يترتب على النسخ, إذ قال: «فينبغي أقل ما في هذا الباب أن يتوقف في المراد بالآية، ويعتقد أنه إذا كان الفرض غير شهر رمضان فهو منسوخ به، وإن كان المراد به شهر رمضان فقد نسخ التخيير فيها بلا خلاف»( الخلاف: 2 / 161 – 162).

فهو: أما نسخ التخيير بالتعيين, أو نسخ وجوبٍ معينٍ بوجوب غيره(النظرية العامة للفقه المقارن: 186), وكل ذلك قد أشار إليه المفسرون(الناسخ والمنسوخ: 36) بحسب تعدد الفهوم واختلاف المباني في قبول الروايات الواردة في ما يدور حول هذه الآيات, كما ويختلف الفهم تبعاً للمبنى الأصولي الذي يركن إليه المفسر عند تحقيق أو أتباع مدرسة أصولية معينة.

وهذا وغيره مما يسهم في إثراء الحراك الفكري التفسيري لدى المفسرين المستند إلى الناسخ والمنسوخ وما يتعلق به من اختلاف في المقدمات التي تقود إلى تنوع الفهم لديهم.

بقلم: الدكتور عدي جواد علي الحجار.

gate.attachment