النص الكامل للخطبة الثانية لصلاة الجمعة بإمامة السيد أحمد الصافي بتاريخ 5 آب 2016 م الموافق 1 ذي القعدة 1437 هـ

أنقل لكم نصين عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، بما يتعلق بعمارة الأرض،

ومن جملة ما قال: فأما وجه العمارة فقوله تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)، فأعلمنا سبحانه أنه قد أمرهم بالعمارة ليكون ذلك سبباً لمعايشهم بما يخرج من الأرض من الحب والثمرات وما شاكل ذلك مما جعله الله تعالى معايش الخلق.

وقال أيضاً في نص آخر وهو من كتابه إلى مالك الأشتر قال: (وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإن في صلاحهم وصلاحه صلاحا لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأنّ الناس كلّهم عيال على الخراج وأهله. وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلا).

طبعاً لا يخفى على الأخوة الأعزاء أن هناك مبحث من الشارع المقدس على استثارة جميع الطاقات، وأيضاً الدخول إلى تهيئة مستلزمات المعيشة، ولعلَّ بعض الآيات القرآنية تشير إلى الضرب في الأرض، إشارة الى العمل بعنوانه العام، وهذا العمل بعنوانه العام مقوم من مقومات الفرد، ومقوم من مقومات المجتمع أو من مقومات الدولة، ولذلك كانت الأرض هي محط الخيرات دائما وإلى يومنا هذا، وترك الأرض بلا استثمار من الأمور المعيبة، وأمير المؤمنين (عليه السلام) لعلّه قرّع بعض ولاته عندما جرّد الأرض.

قال (عليه السلام) له: أما بعد فقد بلغني عنك أمرٌ إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك وعصيتَ إمامكَ وأخزيتَ أمانتكَ) بهذه الحالات الثلاث رتب الإمام (عليه السلام) عليه، فماذا فعل؟

قال (عليه السلام): (بلغني أنك جرّدت الأرض، وأخذت ما تحت قدميكَ وأكلت ما تحت يديك، أنت إنسان لم تحافظ على مصلحة الناس، لم تحافظ على الأموال العامة، وإنما أنت جرّدت الأرض ولم تبقِ لهم بقية، وإنما ماله قد أخذته أنت، فارفع إليّ حسابك، واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس.. والسلام).

فالإمام علي (عليه السلام) لم يعطه مجالاً، والنص الذي قرأناه، قال: (فأعلمنا سبحانه وتعالى أنه قد أمرهم بالعمارة فيكون ذلك سبباً لمعايشهم، ولاحظوا أخواني الدقة في التعبير، والقرآن الكريم يقول: (انشأكم من الأرض واستعمركم)، فالإنسان إذا لم يعمر الأرض فحقيقة يكون كما يقول الإمام (عليه السلام): لقد عصيت وأخزيت وخذلت، وهذا التعمير مبنيّ على معايش الناس وأرزاق الناس هي قائمة على إعمار الأرض، وعمارة الأرض لا شك تحتاج إلى أناس يقدرون هذه الأرض بتعميرها،

أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما كتب عهده إلى مالك وقد ذكرنا في الخطب السابقة فقرات متعدّدة من هذا الكتاب والعهد، لم يصب اهتمامه على أمر الخراج، وهذا الكلام من أمير المؤمنين بعض من جاء بعد أمير المؤمنين على طول التاريخ نجد أن من تصدى للأمور اهتموا بالخراج دون إعمار الأرض، وفعلاً فهم لم يمكثوا إلا قليلا، قوام الدولة باصطلاحاتنا الحديثة اقتصاد الدولة مبني على استغلال هذه الخيرات، ونلاحظ ذلك من النص لمالك (رضوان الله تعالى عليه) قال (عليه السلام): (وتفقد أمر الخراج لما يصلح أهله) أي تفقد ميزانية الدولة، والخراج المال الذي يؤخذ ضريبة ويأتي إلى بيت المال ويوزّع إلى مستحقه أو مصالح الدولة، ويقول: (فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً للناس، فالمقوم هو إذا صلح الخراج وصلح الناس المقيمين عليه فغيرهم يصلح، والصلاح لمن سواهم، لاحظوا، (ولا صلاح لمن سواهم إلا بصلاح الخراج وصلاح أهل الخراج)، إما إذا فسدا أو قلّا فلا شك لا يمكن أن تصلح الحال، فاقتصاد خاوي وأموال تسرق وأرض لا تعمّر هذا أمر لا يقبل به أمير المؤمنين (عليه السلام)، لاحظوا قال: لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله، فالناس تريد أن تقتات فلابد من استثارة هذه الأرض، وأنت يا مالك عامل ووالي وعليك الاهتمام بهذا الأمر، ثم أمره بهذا النص وهو دستور مهم جداً لمن يريد أن يطوّر اقتصاد بلده، قال: (وليكن نظرك في عمارة الأرض) ابحث عن عمارة الأرض، فجّر العيون والأنهار وابحث عن الزراعة والمصانع كل بحسبه وبوقته (وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج)، لا تكن عينك على الدينار والدرهم فقط، ولكن اهتم بعمارة الأرض، اذهب إلى الأرض وعمّرها لأن ذلك الخراج لا يدرك إلا بالعمارة، فمن أين لك الخراج ولا توجد عمارة؟، ولاحظوا اخواني هذا النص (ومن طلب الخراج بغير عمارة) أي بلا عمل ولا يعمّر (ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلكَ العباد)، هذا الأثر عجيب يذكره الإمام (عليه السلام)، فالمسألة لا تكن أثر شخص وجزئي وإنما قال (أخرب البلاد وأهلك العبادة) لذلك تكون خربة مع أنها غنية لكن لا توجد عقول تحاول أن تستثمر وتعمّر الأرض، فالنتيجة البلاد ستخرب والعباد سيهلكون، (ولم يستقم أمره إلا قليلا)، لأنه واقعاً لا يعرف كيف يعيش؟

أخوتي ... قبل الختام أحب أن أنقل لكم قصةً جديرةً بأن تلقى، هناك شخص أسمه (أمجد) وأتحدث بالأسماء، هذا الشخص (أمجد عبد سالم) خطب امرأةً وهذه الخطبة استمرت لخمس سنوات وهذه الفتاة هي الوحيدة لأهلها، فأهلها يظنون بها عزيزة عندهم، وحاولوا أن يشرطوا شروطاً وهو لم يمل من القضية، وهذا الشخص من أهالي الناصرية، وخطب المرأة وبالنتيجة الأهل وافقوا بعد فترة خمس سنوات أو أقل، البنت أذكر اسمها (زهراء صفاء)، وهي من أهل الديوانية، خلال هذه الفترة (الخطبة) ذهب أمجد إلى جبهات القتال، وفي يوم (31/ 7/ 2016) أصيبَ بمنطقة الخالدية، والإصابة كانت بليغة وبُترت كلتا رجليه، الآن الرجل يسمعني وهو في المستشفى، وهو رجل موضوعي، فبعد هذه الإصابة أفاقَ وطلب من أهله أن يعتذروا لهذه المرأة (خطيبته) نسبة لوضعه الخاص، وعندما وصل الخبر إلى أهل البنت، وسمعوا بإصابته فالنتيجة كانت على عكس ما ظنّ هو، فالأهل أصرّوا (الحديث بحاجة إلى مشاعر فبعض الكلمات تعجز عن وصف حقيقة عن بعض ما عندنا من طاقات وبعض ما عندنا من نفوس وبعض ما عندنا من قلوب ومن سخاء في النفس، وحقيقة هذا الوطن فهي رجال وفيه نساء وعوائل وضروري على القائمين أن يلتفتوا ويهتموا)

النتيجة كانت أن الأهل قالوا نعقد القران في المستشفى، وجاءوا فعلا قبل يومين وانعقد القران في المستشفى، بعد خمس سنوات، ولكن لأنه تعامل مع البلد، والمهم أن هذه الرجولة وهذه هي المواقف الإنسانية الحقيقية، وأنا من هذا المكان أدعو واقعاً جميع المتصدّين أن يوثقوا ويلتفوا، ونحن ندعو لهذه العائلة الكريمة التي قبلت وتشرّفت بأن هذا الرجل الذي أوصى أن تكون قدماه فداء للعراق، ولا نقدر إلا ندعو له وللعائلة وندعو الله أن يمن عليه بالعافية وأن يجعلها أسرة كريمة منتجة للذرية الصالحة للدفاع عن البلد وعن كل المقدسات. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

gate.attachment