نهضة الإصلاح وظروف المجتمع الإسلامي

مقدّمة

لم تكن عاشوراء الحسين عليه السلام بمعزل عن الظروف والملابسات التي عاشها المجتمع الإسلامي آنذاك، بل كانت نتيجة حتمية لما آلت إليه الأُمور من انحدارٍ صوب هاوية التمزّق والتفكك، والابتعاد عن التعاليم النبويّة، والسير باتجاه معاكس لرسالة القيم والمُثل السماوية، فشعار الإصلاح المطلق الذي رفعه الحسين عليه السلام، يُنبئك بالفساد الذي حلّ بكلّ مفاصل الأُمّة الإسلاميّة، فكانت الثورة هي السلاح الوحيد الذي يتمكّن من إعادة كرامة الأُمّة وعزّتها، بعد أن مرّت بأدوار عديدة، وحكومات جائرة، أسفرت عن فقدان هذه الأُمّة إرادتها وروحها الإسلاميّة، وباتت أُمّةً مفككة مجزأة، تتلاعب بها الأهواء كيفما تشاء، وراجت فيها الروح القبلية من جديد، وأمسى الرجال فيها كالسلع في السوق تُباع وتُشترى من قِبل الحكّام، أولئك الحكّام الذين اتبعوا سياسة الإرهاب والتجويع من جهة، وبثّوا القصص والأساطير في مدحهم والثناء عليهم من جهة أُخرى؛ ليضفوا على أنفسهم صبغة إسلاميّة تحول دون قيام أيِّ ثورة ضدهم، ثُمّ راحوا يخترعون الأحاديث المزيّفة القائلة بحرمة الخروج على الحاكم الظالم، كما اخترعوا مذاهب عَقَدية جديدة تُضفي على تصرفاتهم شرعيّة كاملة، كالقول بالجبر والإرجاء.

وهكذا فقد مرّ المجتمع الإسلامي بظروف عصيبة غُيّبت فيه مبادئ الإسلام، وحوّلته إلى مجتمع خانع بائس لدرجة أنّه يقبل بخلافة يزيد بن معاوية، هذا الرجل المتحلل عن جميع القيم، والبعيد كلّ البعد عن خط الرسالة المحمّديّة؛ فوصل الأمر إلى مفترق طرق، إمّا القبول بيزيد وضياع الإسلام واندثاره، وإمّا الرفض والثورة، ونتيجتها الشهادة والسبي وبزوغ شمس الإسلام من جديد، ولم يكن للحسين عليه السلام غير الخيار الثاني، فلا أثر للكلمة، ولا فائدة في النُّصح، وكان لا بدّ من دماء تُوقِظ الضمير، وتُعِيد الصحوة، وتعدِّل مسير الانحراف؛ فكانت عاشوراء...

ونحاول في هذه الصفحات أن ننقل للقارئ صوراً مختصرةً عن الواقع السيّئ الذي كان يعيشه المسلمون في تلك الحقبة الزمنيّة، وصولاً إلى الثورة الحسينيّة المباركة.

تغيير المسار وبوادر الانحراف

ليس خفيَّاً على أحد أنّ بذرة التحوّل الأُولى في مسار الأُمّة الإسلاميّة، كانت بعد وفاة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله؛ إذ انقسمت الأُمّة على فريقين، يرى أحدهما أنّ النصّ هو السبيل المتّبع في تحديد الخلافة الإسلاميّة. ويرى الآخر أنّ الخلافة شورى بين المسلمين؛ فكانت السقيفة، وكان ما كان من تنصيب للخليفة أبي بكر، وإقصاء للبيت العلويّ.

غير أنّه لو أردنا أن نغض الطرف عن هذا الخلاف، ونسلّط الضوء على ما حصل من انحراف في واقع الأُمّة وفي تطبيقاتها لأحكام الشريعة، فإنّ السقيفة ستكون أحد الأسباب الرئيسة المؤدّية إلى ذلك.

ولعلّ من الصعوبة أن يكون بمقدورنا تحديد الفترة الزمنيّة التي أحسّ فيها المجتمع بآثار انحرافه بوضوح؛ إذ إنّ التغيير الذي حصل هو تغيير تدريجي غير ملموس النتائج، ولكن نستطيع القول ـ وطبقاً لما ذكره أهل السير والتاريخ ـ: إنّ بداية النصف الثاني من عهد الخليفة عثمان، قد شهد فيه المجتمع الانحراف العلني عن مبادئ الإسلام، ولا شكّ في أنّ هذا التغيير كانت له عوامل معيّنة أدّت إليه، ولعلّ من أبرز هذه العوامل التي ساعدت على هذا التبدل في المجتمع هي السقيفة المشار إليها، ثُمّ ما أحدثه الخليفة عمر من تفضيل في توزيع الأموال، ثُمّ الطريقة الغريبة التي تولّى بها عثمان زمام الأُمور.

فأمّا ما يتعلّق بالسقيفة، فقد شاعت فيها الروح القبلية والحزبيّة وباتت هي المحرّك نحو الحكم والسلطان، وبالأخصّ عند فريق من القرشيين؛ إذ بعد ما اجتمع الأنصار بمعزل عن بقيّة المسلمين، وأخذوا يتداولون الرأي، وينادون بالخلافة، ظهر تكتّل من قريش، يرون أنّهم أحقّ الناس وأولاهم بالخلافة بعد الرسول صلى الله عليه وآله، وتنازعوا فيما بينهم، وكثُر الكلام واللغط، وانشقّ الأنصار فيما بينهم، وانتهت السقيفة بتولية أبي بكر لكونه قرشياً، وأُقصي الممثل الشرعيّ لخلافة السماء أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، والذي لم يكن له حضور في السقيفة؛ لانشغاله مع الهاشميين وبعض الصحابة بتجهيز جثمان النبيّ صلى الله عليه وآله الذي لم يوارَ التراب بعدُ.

 وهكذا تناسى المجتمعون عهود النبي صلى الله عليه وآله جميعها، وتوصياته في عليّ عليه السلام والتي لا يسعُ المجال لذكرها في هذا المقال؛ فنتج عن ذلك تبديل النظريّة الإسلاميّة حول الخلافة، فبعد أنْ أراد لها الإسلام أن تكون مفهوماً إسلاميّاً، هدفه انتشال الأُمّة من الضياع، والسير بها وفق تعليمات وتوجيهات الرسول صلى الله عليه وآله، صارت حكومة قبلية، وأنّ قريشاً أحقّ بها؛ لأنّ محمّداً صلى الله عليه وآله منها! وكان لهذه المسألة تأثيرها البالغ في اختلاف كلمة المسلمين وإلى يومنا هذا.

انتهت السقيفة بتولّي الخليفة أبي بكر مهام السلّطة، لكنّ الطابع الإسلامي العامّ في أغلب الأُمور لم يتغيّر بعد، خصوصاً فيما يتعلّق بتوزيع الأموال، فالروح المحمّديّة ما زالت طريّة بينهم.

غَمضَت عينا أبي بكر وقد أعاد للأذهان مبدأ النصّ في الخلافة، فنصّ على عمر من بعده؛ إذ لم تكن الشورى نافعة في كلّ الأوقات، بعد أن حقّقت غرضها في إبعاد أهل البيت علیهم السلام عن سدّة الخلافة، لكنّ هذا النصّ لم يكن مشابهاً للنصّ الذي نادى به أبناء البيت العلويّ، فذلك كان النصّ المعصوم من الخطأ والزلل، وهو نصّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، بينما النصّ الآخر هو نصّ أبي بكر على خلافة عمر من بعده!

تربّع الخليفة عمر على سدّة الخلافة، وبدأت الأُمّة تزداد ابتعاداً عن توجيهات الإسلام الأصيل، ففي سنة (20ﻫ) بدأ بتطبيق مبدأ التفاضل في العطاء؛ «ففضّل السابقين على غيرهم، وفضّل المهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين، وفضّل المهاجرين كافّة على الأنصار كافّة، وفضّل العرب على العجم، وفضّل الصريح على المولى، وقد كان أشار على أبي بكر أيّام خلافته بذلك، فلم يقبل...»[1]، كما فضّل مضر على ربيعة؛ ففرض لمضر في ثلاثمائة، ولربيعة في مائتين[2]، كما أنّه فاضل بين الأنصار بتقديم الأوس على الخزرج، فبدأ برهط سعد بن معاذ الأشهلي من الأوس، ثُمّ الأقرب فالأقرب لسعد[3].

وكان لهذا التفضيل تبعات سلبيّة من تكوين طبقيّة في المجتمع، ومساهمة في إذكاء الصراع القَبَليّ بين مضر وربيعة، وكذا بين الأوس والخزرج، والصراع العنصري بين المسلمين العرب وغيرهم؛ نتيجة تفضيل العرب على العجم، والصريح على المولى.

كما أنّ عمر لم يكن على معرفة بأحكام وتطبيقات الإسلام الكثيرة، ولولا وجود عليّ عليه السلام لأخذت الأحكام تنحى منحىً آخر، وقد نُقل عنه في ذلك أنّه كان يتعوّذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن[4].

ثُمّ إنّ عمرـ وقبل وفاته ـ اقترح مشروعاً جديداً للخلافة، فقد جعل الخلافة من بعده شورى تتألّف من ستة نفرـ كلّهم من قريش ـ يختارون من بينهم شخصاً للخلافة، وهؤلاء الستة هم: عليّ بن أبي طالب، وعثمان بن عفّان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوّام، وسعد بن أبي وقّاص، وعبد الرحمن بن عوف، ثُمّ ضيَّق الدائرة؛ فجعل الميزان في الثلاثة الذين ينضمُّ إليهم عبد الرحمن بن عوف[5].

وكان لهذه الشورى إسهام كبير في تشتيت كلمة المسلمين، وتفريق أمرهم؛ إذ جَعلت من الناس طوائف وفِرَقاً مختلفة، فبعد أنْ اختلف أهل الشورى في تحديد الخليفة، انسحب عبد الرحمن منها؛ ليتظاهر بمظهر المحايد على أنْ يقوم هو بتحديد الخليفة، يقول الشعبيّ: «فخرج عبد الرحمن، فمكث ثلاثة أيّام يشاور الناس، ثُمّ رجع واجتمع الناس، وكثروا على الباب لا يشكّون أنّه يبايع عليّ بن أبي طالب، وكان هوى قريش كافّة ـ ما عدا بني هاشم ـ في عثمان، وهوى طائفة من الأنصار مع عليّ، وهوى طائفة أُخرى مع عثمان، وهي أقلُّ الطائفتين، وطائفة لا يبالون: أيهما بويع»[6].

ووصل الأمر إلى أنّ قريشاً تعدُّ الخلافة إحدى مؤسساتها، وترفض أن يتقدّم أيّ من المسلمين للخلافة برأي يتنافى ورغباتها، فحينما نادى المقداد بضرورة تقديم عليّ بن أبي طالب عليه السلام، أجابه عبد الله بن أبي ربيعة بن مغيره المخزوميّ قائلاً: «يا بن الحليف العسيف، ومتى كان مثلك يجترئ على الدخول في أمر قريش»[7].

وحينما قال عمّار: «فأنّى تَصرِفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم» أجابه رجل من بني مخزوم قائلاً: «لقد عدوت طورك يا بن سميّة، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها؟!»[8].

وقد انتهت هذه الشورى بفوز عثمان اتباعاً لهوى قريش؛ وخلّفت بعدها آثاراً سيئة للغاية، وساهمت في تشتيت شمل المسلمين.

فهذا معاوية بن أبي سفيان يعترف بالنتائج التي سبّبتها شورى عمر في حديث له مع ابن الحصين؛ حيث قال: «يا بن حصين، قد بلغني أنّ عندك ذهناً وعقلاً، فأخبرني عن شيء أسألك عنه! قال: سلني عمّا بدا لك.

أخبرني ما الذي شتت أمر المسلمين، وفرّق أهواءهم، وخالف بينهم؟.

قال: نعم، قتل الناس عثمان. قال: ما صنعت شيئاً. قال: فمسير عليّ إليك وقتاله إيّاك. قال: ما صنعت شيئاً. قال: فمسير طلحة والزبير وعائشة وقتال عليّ إيّاهم. قال: ما صنعت شيئاً. قال: ما عندي غير هذا يا أمير المؤمنين. قال: فأنا أخبرك، إنّه لم يُشتت بين المسلمين ولا فرّق أهواءهم ولا خالف بينهم إلّا الشورى التي جعلها عمر إلى ستة نفر... فلم يكن رجل منهم إلّا رجاها لنفسه، ورجاها له قومه، وتطلّعت إلى ذلك نفسه...»[9].

انتهت الشورى باستيلاء الأُمويين على زمام الحكم، وذلك بشخص عثمان، وأخذ المجتمع يتذوق مرارة بُعده عن صاحب النصّ الشرعيّ، وبدأت ظواهر الانحراف تطفو على السطح، فكان أنْ انتهت تلك الخلافة بثورة عارمة قُتل على أثرها عثمان، ودُفن سرّاً في حشّ كوكب[10]، وهي مقبرة لليهود[11]!

خلافة عثمان واستئثار بني أُميّة

حينما ولي عثمان الخلافة انتهج سياسة في الإدارة والمال لم يعهدها المسلمون من قبل، فقام بتوليته بني أُميّة على رقاب الناس واستأثر وإيّاهم بالأموال؛ وأصبح بيت المال بمثابة الملك الشخصي لعثمان وولاته؛ يصنعون به ما يشاؤون، فكان ممّا عابوا على عثمان: «أن عزل سعد بن أبي وقّاص، وولّى الوليد بن عقبة، وأقطع آل الحكم دُوراً بناها لهم، واشترى لهم أموالاً، وأعطى مروان بن الحكم خمس إفريقية، وخصّ ناساً من أهله ومن بني أُميّة»[12].

كما أنّه أخذ من بيت المال حُليّاً وجواهر ليحلّي بها بعض أهله، ولمّا طعن عليه الناس في ذلك خطب فيهم، فقال: «لنأخذنَّ حاجتنا من هذا الفيء، وإن رُغمت به أنوف أقوام!»[13].

وولّى على الكوفة أخاه من أُمّه الوليد بن عقبة بن أبي معيط، المعروف بشربه الخمر، وصلاته بالناس وهو سكران[14]، فلمّا دخل الكوفة قال له سعد بن أبي وقّاص: «يا أبا وهب، أأمير أم زائر؟ قال: لا، بل أمير. فقال سعد: ما أدري، أحمقتُ بعدك؟! قال: ما حمقتَ بعدي ولا كست بعدك، ولكنّ القوم ملكوا فاستأثروا، فقال سعد: ما أراك إلّا صادقاً»[15].

وولّى بعده سعيد بن العاص فاستبدّ بالأموال، وكان يقول: «إنّ السواد [أي سواد العراق] بستان لقريش وبني أُميّة»[16].

كما أنّه ولّى مصر ـ أخاه من الرضاعة ـ عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فمكث عليهم سنين، فجاء أهل مصر يشكونه ويتظلّمون منه[17].

 وكان معاوية عاملاً لعمر على دمشق والأردن، فضمّ إليه عثمان ولاية حمص وفلسطين والجزيرة؛ وبذلك مهّد له الخلافة، وأنشأ له مملكة مترامية الأطراف.

يقول الدكتور طه حسين: «وليس من شكّ في أنّ عثمان هو الذي مهّد لمعاوية ما أُتيح له من نقل الخلافة ذات يوم إلى آل أبي سفيان، وتثبيتها في بني أُميّة؛ فعثمان هو الذي وسّع على معاوية في الولاية؛ فضمّ إليه فلسطين وحمص، وأنشأ له وحدة شاميّة بعيدة الأرجاء...»[18].

وكان هؤلاء الولاة من المتهمين في دينهم، وكان من بينهم مَن فِسْقُهُ مشهور، يقول سعيد بن المسيّب: «فكان يجيء من أمرائه ما ينكره أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله، وكان يُستعتب فيهم فلا يعزلهم»[19].

وقد نتج عن تلك السياسة تجمّع ثروات ضخمة عند بعضٍ، ونشوء طبقيّة ظاهرة في المجتمع، وقد ذكر المسعوديّ بعض الأمثلة على هذه الثروات الضخمة في ذلك الوقت، فقد بلغت ثروة الزبير خمسين ألف دينار، وألف فرس، وألف عبد وأمة، وضياعاً وخططاً في البصرة ومصر والكوفة والإسكندريّة، وكانت غَلَّة طلحة بن عبيد الله من العراق كلّ يوم ألف دينارـ وقيل: أكثرـ وبناحية الشراة أكثر ممّا ذكرنا، وكان على مربط عبد الرحمن بن عوف مئة فرس، وله ألف بعير، وعشرة آلاف شاة من الغنم، وبلغ بعد وفاته ربع ثمن ماله أربعة وثمانين ألفاً، وحين مات زيد بن ثابت خَلَّف من الذهب والفضة ما كان يُكسّر بالفؤوس غير ما خلّف من الأموال والضياع بقيمة مئة ألف دينار، ومات يعلى بن منية وخَلَّف خمسمائة ألف دينار، وديوناً على الناس، وعقارات، وغير ذلك من التركة ما قيمته ثلاثمائة ألف دينار.

 وأمّا الخليفة عثمان نفسه، فكان له عند خازنه يوم قُتل خمسون ومئة ألف دينار وألف ألف درهم [أي مليون درهم] وقيمة ضياعه بوادي القرى وحُنين وغيرهما مئة الف دينار وخلّف خيلاً كثيراً وإبلاً.

ثم قال المسعودي ـ بعد ذكر هذه الطائفة ـ: «وهذا باب يتّسع ذكره ويكثر وصفه فيمَن تملّك من الأموال في أيّامه»[20].

كما كان لموقف عثمان أمام كبار الصحابة الذين عارضوا سياسته كبير الأثر في ازدياد النقمة عليه من المسلمين عامّة.

فقد عارض سياسته في المال والإدارة عبد الله بن مسعود الهذليّ، وكان خازناً لبيت المال، فاعترضه عثمان بقوله: «إنّما أنت خازن لنا فلا تعرض للوليد فيما أخذ من المال، فطرح ابن مسعود المفاتيح، وقال: كنت أظنّ أنّي خازن للمسلمين، فأمّا إذ كنت خازناً لكم فلا حاجة لي في ذلك...»[21]، ولمّا قَدِم المدينة، ورآه عثمان ـ وكان يخطب ـ قال: «قَدِمت عليكم دويبة سوء، مَن تمشِ على طعامه يقيء ويسلح»، ثُمّ أمر عثمان بإخراجه من المسجد إخراجاً عنيفاً، حتّى تكسّرت بعض أضلاعه[22].

وعارضه أبو ذر الغفاريّ، فنفاه إلى الشام، فلم يكُف عن المعارضة، وأخذ ينتقد أساليب معاوية في إنفاق الأموال العامّة، ويُوقظ الناس، ويعمل على تعرية الباطل، وكان الناس يسمعون قوله، فخاف معاوية من دعوة أبي ذر إلى الحقّ، فكتب إلى عثمان يخبره بخطره على الشام، «فكتب عثمان إلى معاوية: أمّا بعدُ، فاحمل جُندباً إليّ على أغلظ مركب وأوعره، فوجّه معاوية مَن سار به الليل والنهار»[23].

وانتهى الأمر بأنْ نفاه عثمانُ إلى الربذة، ولبث فيها حتّى مات غريباً سنة 32ﻫ.

وعارضه عمّار بن ياسر ـ حليف بني مخزوم ـ فشتمه عثمان، وضربه، فأصابه الفتق، وانكسر أحد أضلاعه وغُشي عليه[24].

ولقد كان المسلمون ينتظرون من عثمان استجابةً لهذه الدعوات التي كانت تنطلق من صميم الواقع المعاش، إلّا أنّهم أُصيبوا بخيبة أمل كبيرة، وهم يَرَون أنّ الإرهاب والتنكيل والتشريد هو جزاء كلّ معارض؛ ممّا أثار سخط المسلمين عامّة.

وفي المقابل، فإنّ أصحاب الثروات بدأوا باستغلال الأوضاع، وراح كلّ واحد منهم يجمع الناس من حوله في محاولة لاستلام الخلافة من بعد عثمان، فقد جاء في تاريخ الطبري: «كان عمر بن الخطاب قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروجَ في البلدان إلّا بإذن وأجل... فلمّا ولي عثمان لم يأخذهم بالذي كان يأخذهم به عمر؛ فانساحوا في البلاد، فلمّا رأوها ورأوا الدنيا ورآهم الناس، انقطع مَن لم يكن له طول ولا مزيّة في الإسلام، فكان مغموماً في الناس، وصاروا أوزاعاً[25] إليهم وأمّلوهم، وتقدموا في ذلك، فقالوا: يملكون فنكون قد عرفناهم، وتقدّمنا في التقرّب والانقطاع إليهم. فكان ذلك أوّل وهن دخل على الإسلام، وأوّل فتنة كانت في العامّة ليس إلّا ذلك»[26].

وقال في موضع آخر: «لم تمضِ سنة من إمارة عثمان حتى اتخذ رجال من قريش أموالاً في الأمصار؛ وانقطع إليهم الناس، وثبتوا سبع سنين كلّ قوم يحبون أن يلي صاحبهم»[27].

وحينئذٍ؛ تكون حلقات الثورة قد اكتملت على عثمان من كلّ الجوانب، فقد نتجت من السقيفة طبقة ترى أنّ الحكم لها لا غير، وأخذت هذه الطبقة تتمتع بثروات هائلة؛ بسبب مبدأ عمر في التفضيل، وسياسة عثمان المشار إليها، مضافاً إلى ما كوّنه مبدأ الشورى من طموح في نفوس أفرادها ـ بل في غيرهم أيضاً ـ في الحصول على الحكم، ممّا دفعها للاستفادة من كلّ الظروف للوصول إلى الحكم.

وفي قِبال هذه الطبقة طبقة فقيرة ممنوعة من الامتيازات كافّة، فتكون الظروف والدواعيّ للثورة موجودة عند الجميع، خصوصاً عند ملاحظة ما قام به عثمان من التنكيل بأصحاب الرسول صلى الله عليه وآله.

فانفجرت الأُمّة بأسرها بثورة على خليفة المسلمين، يتقدّمهم وجوه الصحابة وقرّاء القرآن وخيار التابعين.

قال ابن الأثير ـ في أحداث سنة (34 ﻫ)ـ: «في هذه السنة تكاتب نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وغيرهم ـ بعضهم إلى بعض ـ أن أقدموا؛ فإنّ الجهاد عندنا، وعَظُمَ الناس على عثمان، ونالوا منه أقبح ما نِيل من أحد، وليس أحد من الصحابة ينهى ولا يذبّ إلّا نفر، منهم: زيد بن ثابت، وأبو أسيد الساعديّ، وكعب بن مالك، وحسّان بن ثابت، فاجتمع الناس، فكلّموا عليّ بن أبي طالب، فدخل على عثمان، فقال له: الناس ورائي، وقد كلّموني فيك...»[28].

والمُلاحظ أنّ عثمان لم يواجه هذه الحركة الجماهيريّة بالحكمة والعدالة، فبدلاً من أن يستجيب لمطالب الثوّار، ويردع عمّاله وولاته من التصرفات المشينة، قام بردّ الثوّار بعنف، واستهان بهم! فجمع ولاته واستشارهم في الأمر، وسألهم عن الفعل الذي يفعله مع الجماهير المطالبة بعزل عمّاله، فقال له عبد الله بن عامر: «رأيي لك ـ يا أمير المؤمنين ـ أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك، وأن تجمرهم في المغازي حتى يذلوا لك، فلا يكون همّة أحدهم إلّا نفسه وما هو فيه من دَبَرة دابته وقمل فروه...

فردّ عثمان عمّاله على أعمالهم، وأمرهم بالتضييق على مَن قبلهم، وأمرهم بتجمير[29] الناس في البعوث، وعزم على تحريم أُعطياتهم؛ ليطيعوه ويحتاجوا إليه»[30].

وقد ازدادت الأُمور سوءاً؛ وانتهت الأحداث بثورة أودت بحياة الخليفة بصورة مأساوية.

وقد صوّر أمير المؤمنين عليه السلام تلك الأحداث بصورة رائعة، فقال: «استأثر فأساء الأثرة، وجزعتم فأسأتم الجزع، ولله حكم واقع في المستأثر والجازع»[31].

خلافة عليّ عليه السلام

وبعد سنين طويلة من وفاة الرسول ـ وما حلّ بالمجتمع الإسلاميّ من تفكّك وطبقيّة وانتشار للفساد ـ اتّجهت الناس بعد وفاة عثمان صوب عليّ عليه السلام طالبين منه تولّي الخلافة؛ فتسلّم الإمام زمام الأُمور والمجتمع غارق في الفساد، فكان لا بدّ له من نهضة على الأصعدة كافّة، فقد أصرّ عليه السلام على عزل ولاة عثمان الذين عُرفوا بالفساد في الأرض، رغم المطالبات بإبقائهم بدعوى الصلاح في ذلك، فولّى على البصرة عثمان بن حُنيف، وعلى الشام سهل بن حُنيف، وعلى مصر قيس بن سعد بن عبادة، وعلى الكوفة عمارة بن شهاب[32]، وقيل: إنّه ثبّت على الكوفة أبا موسى الأشعريّ بإشارة من الأشتر[33]، ثُمّ عزله فيما بعد[34]. وهذه هي الأمصار الكبيرة في دولة الخلافة آنذاك.

ومن الواضح أنّ قيساً وعثمانَ وسهلاً كلّهم من الأنصار الذين تعرضوا للإقصاء في تلك الفترة.

فقد أراد الإمام عليه السلام أن يُعيد الصبغة الإسلاميّة الصحيحة للمجتمع، وأن يُلغي الفوارق التي اصطنعها الحكّام، فإنّ المسلمين سواء في الحقوق والواجبات في الإسلام، فلا فرق بين قرشيّ وغيره، فذاك مبدأ أقرّته الجاهليّة وألغاه الإسلام.

ولذا لخّص سياسته في الحقوق بقوله: «الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحقّ له، والقويّ عندي ضعيف حتّى آخذ الحقّ منه»[35].

كما أنّ الإمام عليه السلام وجّه ضربة قاسية للفئة المتسلّطة آنذاك والتي استأثرت بالأموال، فقرّر إعادة النظر في المسألة، وأمر بإعادة جميع الإقطاعات التي اقتطعها عثمان، وجميع الأموال التي وهبها إلى الطبقة الموالية إلى بيت المال، فقال عليه السلام: «ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان، وكلّ مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال، فإنّ الحقّ القديم لا يبطله شيء، ولو وجدته وقد تزوج به النساء، وفُرّق في البلدان، لرددته إلى حاله؛ فإنّ في العدل سعة، ومَن ضاق عنه الحقّ فالجور عليه أضيق»[36].

كما أعلن أنّه سيوزّع المال بين المسلمين بالتساوي، فقال: «ألا لا يقولنَّ رجال منكم غداً قد غمرتهم الدنيا، فاتخذوا العقار وفجّروا الأنهار، وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتُهم إلى حقوقهم التي يعلمون، فينقمون ذلك، ويستنكرون ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا! ألا وأيّما رجل من المهاجرين والأنصار ـ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ـ يرى أنّ الفضل له على مَن سواه لصحبته، فإنّ الفضل النيّر غداً عند الله، وثوابه وأجره على الله، وأيّما رجل استجاب لله وللرسول، فصدّق ملّتنا ودخل في ديننا، واستقبل قبلتنا، فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يُقسم بينكم بالسويّة، لا فضل فيه لأحدٍ على أحد، وللمتقين عند الله غداً أحسن الجزاء، وأفضل الثواب، لم يجعل الله الدنيا للمتقين أجراً ولا ثواباً، وما عند الله خير للأبرار، وإذا كان غداً ـ إن شاء الله ـ فاغدوا علينا، فإنّ عندنا مالاً نقسمه فيكم، ولا يتخلفن أحدٌ منكم ـ عربيّ ولا أعجميّ، كان من أهل العطاء أو لم يكن ـ إلّا حضر إذا كان مسلماً حراً، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم... فلمّا كان من الغد، غدا وغدا الناس لقبض المال، قال لعبيد الله بن أبي رافع كاتبه: ابدأ بالمهاجرين فنادِهم، وأعطِ كلَّ رجل ـ ممّن حضر ـ ثلاثة دنانير، ثُمّ ثنِّ بالأنصار، فافعل معهم مثل ذلك، ومَن يحضر من الناس كلّهم ـ الأحمر والأسود ـ فاصنع به مثل ذلك. فقال سهل بن حُنيف: يا أمير المؤمنين، هذا غلامي بالأمس، وقد أعتقته اليوم. فقال: نُعطيه كما نُعطيك. فأعطى كلّ واحد منهما ثلاثة دنانير، ولم يفضّل أحداً على أحد، وتخلّف عن هذا القسم ـ يومئذٍ ـ طلحة، والزبير، وعبد الله بن عمر، وسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم، ورجال من قريش وغيرها»[37].

وطبيعي أنّ هذه السياسة العادلة لم ترق للطبقة المترفة إبّان حكم عثمان، لكنّها أنعشت القلوب الفقيرة التي عانت الأمرَّين؛ فبدأت ملامح خلاف جديد، وأخذت الأفكار تُحاك من وراء الستار، وهكذا أوصلت السياسات غير الحكيمة للخلفاء السابقين المجتمع إلى هوّة سحيقة، وبدأت إفرازاتها تظهر على الساحة بصورة جليّة؛ ولذا نرى أنَّ الأمير عليه السلام عندما استدعى زعماء هذه الطبقة ليحاججهم على خلافهم إيّاه، أجابوه بأنّ سبب ذلك هو سيره على خلاف تقسيم عمر للأموال، وأنّه ساواهم بغيرهم[38].

وهكذا بدأت بوادر معركة يقودها الفريق المتضرّر من عدالة عليّ عليه السلام، فكان دم عثمان هو الستار الذي خبّأت فيه مطامعها، فحصلت حركة التمرّد في البصرة تحت ذلك الستار، وكانت معركة الجمل التي انتهت بهزيمة المتمردين، وسقوط طلحة والزبير قتيلين مع آلاف القتلى من الطرفين.

وفي الوقت الذي انشغل الإمام عليه السلام فيه بتصفية الناكثين، فإنّ الشام لم تستجب لخلافة عليّ عليه السلام، ولم تستقبل واليها الجديد، بل إنّ معاوية والي الشام سابقاً ـ أحد زعماء الطبقة المنتفعةـ أخذ يعدُّ العُدَّة للقضاء على حكومة الإمام عليه السلام، وتمكّن من إعداد جيش كبير متلاحم في صفوفه على الباطل، وباتت الشام تُؤوي كلّ متمرّد على حكم الإمام عليّ عليه السلام، وكلّ رافض للعدالة الإلهيّة؛ فقد انضمّت إليها العناصر المنتفعة بعهد عثمان، والتي رأت في الحكم الجديد خطراً عليها، فلاحت في الأفق بوادر معركة جديدة، بعد أن فشلت جميع المراسلات بين الفريقين، ولم يعد هناك ما يجمع الكلمة سوى السيف.

وهكذا، فإنّ الحروب الداخلية زادت من تشتيت المجتمع وتفكيكه وتخاذله، بل وميوله إلى الباطل، لدرجة أنّ عليّاً عليه السلام كان على أبواب النصر في معركة صفّين، لكنّ الجهل والتخاذل في جيش الإمام عليه السلام أدّى لتمرير خدعة المصاحف التي رفعها معاوية؛ ومن ثَمَّ اضطرّوا الإمام عليه السلام إلى القبول بمهزلة التحكيم التي خلّفت وراءها انقساماً كبيراً في جيش الإمام عليه السلام، فبين مُطالبٍ بالعودة إلى القتال، وبين مُطالبٍ بالدِّعة والركون إلى السلم، وبين داعٍ لمواصلة الحرب، ولكن بشرط أن يُعلن الإمام عليه السلام توبته على رؤوس الأشهاد، بعد أن حكّم الرجال في دين الله ـ وهو كفر على حدِّ زعم هذه الطائفة ولا بدّ فيه من التوبة ـ فانقسم جيش الإمام عليه السلام إلى ثلاث فئات؛ إذ من الصعب أن تجمع الناس على الحقّ بعد أن فرّقهم الباطل ومزّقتهم الأهواء.

وبدأ الانقسام وظهر التقاعس وانفصل التكفيريون عن جيش الإمام عليه السلام، وتجمّعوا في منطقة حروراء، وخيمت أجواء الحرب من جديد، بعدما فشلت جميع محاولات الإمام عليه السلام في إعادتهم إلى طاعته، وقتال معاوية تارة أُخرى... وبذلك انفتحت على الإمام عليه السلام جبهة أُخرى، أسفرت عن حرب ثالثة انتهت بمقتل جميع الخوارج الذين رفضوا العودة إلى طاعة الإمام، باستثناء تسعة أو عشرة، كما يذكر المؤرخون.

هكذا هي الثروة، وها هي نتائج ولاة عثمان، ثلاثة حروب في غضون فترة وجيزة، أنهكت قوى الإمام عليه السلام، وشغلته عن القيام بثورته الإصلاحيّة الكبرى، وفتت جيشه الذي صار ميّالاً إلى الدِّعة والراحة والسكون، ورافضاً للحرب والقتال إلّا ثُلّة قليلة.. وكان الإمام عليه السلام يحاول جمعهم لقتال جيش الشام المتمرّد على حكومة الإمام عليه السلام، لكن دون جدوى.

ولذا؛ نجد الحرقة واللوعة في خطابات الإمام عليه السلام لجيشه، فقال ذات مرة: «أُفٍ لكم! لقد سئمتُ عتابكم، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضاً، وبالذّل من العزّ خَلَفاً؟! إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم، كأنّكم من الموت في غمرة، ومن الذهول في سكرة...، وما أنتم إلّا كإبل ضلّ رعاتها، فلمّا جُمعت من جانب انتشرت من آخر...، وايم الله، إنّي لأظنُّ بكم أن لو حَمس الوغى، واستحرّ الموت، قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج الرأس..»[39].

ويبدو أنَّ هذه الخطبة كانت بعد حرب الخوارج ـ وقعة النهروان ـ حيث أراد أن يستنهض بها أصحابه من أهل الكوفة على أهل الشام، لكن دون جدوى، فقد نقل ابن أبي الحديد في شرحه لهذه الخطبة، خبراً جاء فيه: أنّه: «لمّا كره القوم المسير إلى الشام ـ عَقيب واقعة النهروان ـ أقبل بهم أمير المؤمنين عليه السلام، فأنزلهم النُّخيلة، وأمر الناس أن يلزموا معسكرهم، ويوطِّنوا على الجهاد أنفسهم، وأن يُقلّوا زيارة النساء وأبنائهم حتى يَسير بهم إلى عدوهم، وكان ذلك هو الرأي ـ لو فعلوه ـ لكنّهم لم يفعلوا، وأقبلوا يتسللون ويدخلون الكوفة، فتركوه عليه السلام وما معه من الناس إلّا رجال من وجوههم قليل، وبقي المعسكر خاليّاً، فلا مَن دخل الكوفة خرج إليه، ولا مَن أقام معه صَبَر، فلمّا رأى ذلك دخل الكوفة...»[40].

وقال عليه السلام في خُطبة أُخرى: «لله أنتم، أَمَا دين يجمعكم؟! ولا حميّةٌ تشحذكم؟! أوليس عجباً أنّ معاوية يدعو الجفاة الطغام، فيتبعونه على غير معونة ولا عطاء، وأنا أدعوكم ـ وأنتم تريكة الإسلام وبقيّة الناس ـ إلى المعونة وطائفة من العطاء فَتَفرَقون عنِّي، وتختلفون عليَّ؟! إنّه لا يخرج إليكم من أمري رضىً فترضونه، ولا سخط فتجتمعون عليه، وإنَّ أحبّ ما أنا لاقٍ إليّ الموت، قد دارستكم الكتاب، وفاتحتكم الحجاج، وعرّفتكم ما أنكرتم، وسوّغتكم ما مججتم ـ لو كان الأعمى يَلْحَظُ أو النائم يستيقظ ـ وأَقْرِبْ بقومٍ من الجهل بالله قائدهم معاوية، ومؤدبهم ابن النابغة!»[41].

وفي الوقت الذي يحاول الإمام عليه السلام إعادة تأهيل جيشه والعودة لقتال الشام، وإذا بيد الغدر الأثيمة تطاله وهو في محراب صلاته، ليفوز بحياة أبديّة، وتنتهي مسيرته في الدنيا المثقلة بالأعباء والمحن والبلايا.

وهكذا تتولد لنا صورة ذلك المجتمع الذي مال إلى الاستكانة والدِّعة، ورفض الحرب والقتال، مجتمع لا دِين يجمعهم ولا حميّة تشحذهم، خرقٌ باليةٌ متهتكة يتمنى أمير المؤمنين عليه السلام الموت على العيش معهم، وهذا ما يُلقي أكبر الضوء على أسباب اتخاذ الإمام الحسن عليه السلام موقف الصلح مع طاغية الشام.

خلافة الحسن بن عليّ عليه السلام

أراد الإمام الحسن عليه السلام ـ بعد أن تولّى الخلافة بعد أبيه ـ أن يسير على نفس سياسة أبيه في مناجزة حكومة الشام والقضاء على يد الفتنة والتفرقة، وفي أوّل لحظات البيعة نراه يشترط على الناس أن يكونوا مطيعين، يسالمون مَن سالم، ويحاربون مَن حارب، لكنّ المجتمع بدأ تخاذله أوّل وهلة، فارتابوا من هذا الشرط وقالوا: «ما هذا لكم بصاحب»[42].

كما أنّه عليه السلام وفي خُطوة أراد منها ترغيب النفوس وحثّهم على القتال قام بزيادة المقاتلة مائة مائة[43].

ولمّا عَلم معاوية ببيعة الناس للحسن عليه السلام، دسّ رجلاً من حِمْيَر إلى الكوفة، ورجلاً من القين إلى البصرة، ليكتبا إليه الأَخبار، ويفسدا على الحسن عليه السلام الأُمور، فعرف ذلك الحسن عليه السلام، فأمر باستخراج الحِمْيَريّ من عند حجّام بالكوفة فأُخرج، فأمر بضرب عنقه، وكتب إلى البصرة فاستخرج الإمام عليه السلام القينيّ من بني سليم، وضُربت عنقه[44]، ثُمّ كتب الإمام عليه السلام إلى معاوية: «أمّا بعدُ؛ فإنّك دسست الرجال للاحتيال والاغتيال، وأرصدت العيون، كأنّك تحب اللقاء، لا أشكّ في ذلك، فتوقعه ـ إن شاء الله ـ وبلغني أنّك شمتّ بما لا يشمت به ذوو الحجى، وإنّما مثلك في ذلك كما قال الأوّل:

فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى             تجـهّـز لأُخـرى مـثـلـهـا فـكـأنّ قد

فإنّا ومَـن قــد مـات مـنّا لـكالذي             يروح فيمسي فـي المـبيت ليغتدي»[45].

وهذا إنذار وتهديد صريح من الإمام عليه السلام لمعاوية بالحرب، وقطعاً لآماله بالاستيلاء على الكوفة بسلام.

ومن جهته أخذ معاوية بالاستعداد لمعركة جديدة، وكتب لعمّاله بموافاته لغزو العراق، وذكر ـ في بعض كتبه ـ أنّ بعض أشراف الكوفة وقادتهم كتبوا إليه يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم[46].

وهذا النقل ـ إن صحّ ولم يكن خدعة من معاوية ـ إنّما يُفصح عن أنَّ الخذلان كان من اللحظات الأُولى.

وأخذ معاوية بالتحرك، ولمّا بلغ الإمام الحسن عليه السلام خبر مسير معاوية، وأنّه قد بلغ جسر منبج، بدأ بتجهيز جيشه، لكنَّ الاستجابة كانت بطيئة ومتثاقلة؛ فقد صعد الإمام عليه السلام المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثُمّ قال:

«أمّا بعدُ، فإنَّ الله كتب الجهاد على خلقه، وسمّاه كُرهاً، ثُمّ قال لأهل الجهاد من المؤمنين: (ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ)، فلستم ـ أيّها الناس ـ نائلين ما تحبون إلّا بالصبر على ما تكرهون، إنّه بلغني أنَّ معاوية بلغه أنّا كنّا أزمعنا على المسير إليه، فتحرّك لذلك، فاخرجوا ـ رحمكم الله ـ إلى معسكركم بالنُّخيلة... فسكتوا، فما تكلّم منهم أحد، ولا أجابه بحرف»[47].

وهذا السكوت يكشف عن تخاذل واضح في جيش الإمام عليه السلام، فلمّا رأى ذلك عديّ بن حاتم، قام وتكلّم مع الناس، وحثّهم على نصرة إمامهم، ثُمّ قام بعده قيس بن سعد بن عبادة الأنصاريّ، ومعقل بن قيس الرياحيّ، وزياد بن صعصعة التيميّ، فأنّبوا الناس ولاموهم وحرّضوهم، وكلّموا الإمام الحسن عليه السلام بمثل كلام عديّ في الإجابة والقبول، فنشط الناس للخروج[48].

وهكذا تجهَّز جيش الإمام للقتال، لكنّه جيش كَتب على نفسه الهزيمة قبل أن يصل إلى ساحة المعركة؛ فهو يتألف من خليط غير متجانس، قال المفيد: «ثُمّ خفَّ معه أخلاط من الناس، بعضهم شيعة له ولأبيه، وبعضهم محكّمة ـ خوارج ـ يؤثرون قتال معاوية بكلّ حيلةٍ، وبعضهم أصحاب فتن وطمع في الغنائم، وبعضهم شُكَّاك، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم، لا يرجعون إلى دين»[49].

كما أنّ مجموعة من رؤساء القبائل كتبوا إلى معاوية بالطاعة له في السر، وحثّوه على السير نحوهم، وضمنوا له تسليم الحسن عليه السلام، أو الفتك به، وقد بلغ الحسن عليه السلام ذلك[50].

ومما زاد الأُمور سوءاً أنّ قائد جيش الإمام الحسن  عليه السلامـ عبيد الله بن عباس ـ قد تسلّل تحت جُنح الظلام إلى جيش معاوية، بعد أن وصلته رسالة من معاوية يقول فيها: «إنّ الحسن قد راسلني في الصلح، وهو مسلّم الأمر إليَّ، فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعاً، وإلّا دخلت وأنت تابع. ولك ـ إن أجبتني الآن ـ أن أُعطيك ألف ألف درهم، أُعَجِّل لك في هذا الوقت نصفها، وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر، فانسلّ عبيد الله إليه ليلاً، فدخل عسكر معاوية، فوفى له بما وعده، وأصبح الناس ينتظرون عبيد الله أن يخرج فيصلّي بهم، فلم يخرج حتى أصبحوا، فطلبوه فلم يجدوه، فصلّى بهم قيس بن سعد بن عبادة»[51].

وإذا ضممنا إلى ذلك ما قام به معاوية من شراء الضمائر بالأموال والدسائس، كما هو الحال بالنسبة إلى عمرو بن حريث، والأشعث بن قيس، وحجّار بن أبجر، وشبث بن ربعي وغيرهم[52]، وقيامه ببثّ الشائعات، والتي منها أنّ قيس بن سعد ـ وهو قائد مسكن بعد فرار ابن عباس ـ قد صالح معاوية وصار معه، كما وجّه إلى عسكر قيس في مسكن مَن يتحدّث أنَّ الحسن عليه السلام قد صالح معاوية وأجابه[53]، ونشر في المدائن إشاعة خبيثة، وهي أنّ قيس بن سعد قد قُتل فانفروا. فنفروا إلى سرادق الحسن عليه السلام، فنهبوا متاعه حتى نازعوه بساطاً كان تحته[54].

إذا ضممنا كلّ هذه الأُمور وغيرها من الأحداث ـ التي لا يسع المجال لذكرهاـ وعرفنا أنّ معاوية هو الذي طلب الصلح، وأنفذ إلى الحسن عليه السلام كُتُب أصحابه الذين ضمنوا فيها الفتك بالحسن عليه السلام، أو تسلميه إلى معاوية، يتضح جليّاً سبب رُكون الإمام عليه السلام إلى الصلح الذي اقترحه معاوية؛ فإنّ المجتمع أمسى عاجزاً عن النهوض بتبعات القتال، وانتزاع النصر، وإنَّ الحرب ستُكلّف الإمام عليه السلام استئصاله، واستئصال المخلصين من أتباعه، وسوف يتمتع معاوية بنصرٍ حاسم يؤهله للقضاء على شجرة الإسلام.

لقد كان الصلح هو الطريق الوحيد الذي يمكن للإمام الحسن سلوكه باعتباره قائداً رسالياً إصلاحياً، فهو بين أُمور ثلاثة: الحرب، أو تسليم السلطة إلى معاوية وترك الأمر، أو الدخول في صلح يوجّه الأحداث من خلاله لصالحه وصالح أهدافه.

فما كان للحسن عليه السلام أن يتخذ الموقف الأوّل؛ لأنّه لو حارب معاوية في تلك الظروف المأساوية وبقواه العسكرية المفككة المتخاذلة، فإنَّ النتيجة واضحة، وهي أن يُقتل مع شيعته المخلصة ـ بمَن فيهم أخوه الحسين عليه السلامـ ومن دون الحصول على أيّ نصر، ولو على المدى البعيد؛ فإنّ لمعاوية إمكانيّة تبرير ذلك، والمحافظة على مكانته من دون أن تؤثر عليه حتى حربه مع عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فإنّ ذلك لم يكن إلّا مطالبة بدم عثمان ـ على حدّ زعمه ـ كما أنّه كان من صحابة النبيّ صلى الله عليه وآله، وموضع ثقة الخليفتين عمر وعثمان، وها هو اليوم يريد الصلح بين الطائفتين، ويحاول دفع الفتنة، ويؤكد حُسنَ نيته أمام الملأ، فقد أمضى للحسن عليه السلام على بياض في أن يشترط قِبال الصلح ما يشاء، ولمعاوية طرائقه الخاصّة وأساليبه المعيّنة في إقناع ذلك المجتمع الخانع بمبرّراته.

وحينئذٍ؛ فلو أنَّ الحسن عليه السلام رفض الصلح وقاتل، لقُتل مع أصحابه، وضاع دمهم هدراً، من دون تحقيق الهدف المنشود، ومن دون أن ينكشف الواقع، ويصحو الضمير.

وأمّا اختيار الشّق الثالث ـ وهو التخلّي والتنحّي من دون إبرام صلح ـ فلا يتناسب مع المنصب الرسالي الذي يتولاه الإمام عليه السلام، ولا يعود للمسلمين بأيِّ صلاح، ويمكّن معاوية من الاستيلاء على أُمور المسلمين دون قيود أو شروط.

إذن؛ لم يبقَ للحسن عليه السلام غير خيار الصلح، فوافق عليه، وأملى شروطه على معاوية التي منها: أن لا يَعهد معاوية لأحد من بعده، وأن يكون الأمر للحسن عليه السلام، فإن حدث به حدث فلأخيه الحسين عليه السلام، وأن يترك سبّ أمير المؤمنين عليه السلام، والقنوت عليه في الصلاة، وأن لا يذكره عليه السلام إلّا بخير، وأنَّ الناس آمنون حيث كانوا في أرض الله، وغير ذلك[55] ممّا يترتب على تطبيقها مصالح إسلامية كبيرة.

فقد أراد الإمام من خلال هذا الصلح أنْ يطّلع الناس على الحقيقة بأنفسهم، ولكي يروا ثمار تقاعسهم عن القتال؛ فغرضه الأساس هو إعداد مجتمع يمكنه النهوض تجاه الظلم والانحراف، ولا شكّ في أنّ ردّة فعل كبيرة سوف تحصل عندما تَطَّلِع الناس على حقيقة سياسة معاوية، ويرون الأماني التي كان يمنّيهم بها معاوية تذهب أدراج الرياح، وكيف أنّ معاوية لا يفي بشروطه ولا بعهوده.

ولقد كانت أُولى الصدمات، حين دخل معاوية الكوفة بعدما اتسقت له الأُمور، فقد قام خطيباً في الناس، وقال: «إنّي ـ والله ـ ما قاتلتكم لتصلّوا، ولا لتصوموا، ولا لتحجّوا، ولا لتزكّوا، إنّكم لتفعلون ذلك، ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك، وأنتم له كارهون، أَلَا وإنّي منّيتُ الحسن، وأعطيته أشياء، وجميعها تحت قدمي، لا أفي بشيء منها له»[56].

ثُمّ قام بعد ذلك بعدّة إجراءات صدمت العراقيين في ذلك العصر، فقد أنقص من أُعطياتهم ليزيد في أُعطيات أهل الشام، وحملهم على أن يحاربوا الخوارج، فلم يُتح لهم أن يخلدوا إلى الراحة ويتمتعوا بالسلم الذي كانوا يحنّون إليه، كما طبّق منهاجه من الإرهاب والتجويع والمطاردة، والذي سيأتي الكلام عنه فيما بعد.

وقد بدأت ثمار الصلح تتجلّى، وأخذت الرجال تعرف حقيقة ما حدث بصنع أياديها «وقد جعل أهل العراق يذكرون حياتهم أيّام عليّ، فيحزنون عليها، ويندمون على ما كان من تفريطهم في جنب خليفتهم، ويندمون كذلك على ما كان من الصلح بينهم وبين أهل الشام، وجعلوا كلّما لَقي بعضهم بعضاً تلاوموا فيما كان وأجالوا الرأي فيما يمكن أن يكون، ولم تكد تمضي أعوام قليلة حتى جعلت وفودهم تفد إلى المدينة للقاء الحسن عليه السلام، والقول له، والاستماع منه»[57].

 بل إنّ بعضهم طلب منه الثورة، لكنّ الإمام عليه السلام كان يُحيل الأمر إلى المستقبل، ويبيِّن أنَّ هذه الفترة هي فترة إعداد وانتظار، لا تخاذل وانسحاب، فقد قال لحجر: «إنِّي رأيتُ هوى أعظم الناس في الصلح، وكرهوا الحرب، فلم أحبّ أن أحملهم على ما يكرهون، فصالحتُ بُقياً على شيعتنا خاصّة من القتل، فرأيتُ دفع هذه الحروب إلى يومٍ ما، فإنَّ الله كلّ يومٍ هو في شأن»[58].

فالإمام عليه السلام كان يُهيئ الأُمّة الإسلاميّة للانقضاض على الحكم الأُمويّ، والإطاحة به، عن طريق إطلاعهم على حقيقة الحكم الأُمويّ البعيد عن المنهج الإسلاميّ الأصيل، فأراهم ـ بأُمّ أعينهم ـ سياسة التجويع والإرهاب والقتل التي يتبعها أولئك الساسة، وكان الإمام الحسن عليه السلام نفسه أحد ضحايا ذلك اللؤم الأُمويّ بعد أن دسّت له زوجته ـ جُعدة بنت الأشعث ـ سُماً قاتلاً بإغراء من معاوية بالمال تبعاً لسياسة الغدر التي انتهجها[59].

حكومة معاوية

لا شكّ في أنّ بقاء مبادئ الإمام عليّ عليه السلام الداعية إلى العدالة والإصلاح وعدم التفريق بين لون وآخر من البشر ستُشكّل تحدياً مستمراً لمعاوية وبطانته، وستؤدي إلى زواله وزوال حكمه؛ لذا فإنّ معاوية عمل على محاربتها، وحاول أن يُطبّع الناس على الطابع الذي يؤمّن له سيطرته على البلاد، من دون رقابة ولا احتجاج، فانتهج سياسة سلب الحريّة من الإنسان المسلم، وتحويله عن أهدافه التي يصبو إليها، فكان القتل والتجويع نصيب كلّ من لا يتفق معه في الهوى السياسيّ، فها هو سفيان بن عوف الغامدي يقول: «دعاني معاوية، فقال: إنِّي باعثُك في جيش كثيف، ذي أداة وجلادة، فالزم لي جانب الفرات حتى تمرّ بهيت فتقطعها، فإنّ وجدت بها جنداً فأغِرْ عليهم، وإلّا، فامض حتى تَغِيرَ على الأنبار، فإن لم تجد بها جنداً، فامض حتى تُوغِل في المدائن، ثُمَّ أقبل إليّ، واتقِ أن تَقرَبَ الكوفة. واعلم أنّك إن أغرت على أهل الأنبار وأهل المدائن فكأنّك أغرت على الكوفة؛ إنَّ هذه الغارات ـ يا سفيان ـ على أهل العراق تُرعِب قلوبهم، وتُفرِح كلّ مَن له فينا هوى منهم، وتدعو إلينا كلّ مَن خاف الدوائر، فاقتل مَن لقيته ممّن ليس هو على مثل رأيك، وأخرب كلّ ما مررتَ به من القرى، وأحرب الأموال، فإنّ حرب الأموال شبيه بالقتل وهو أوجع للقلب!!»[60].

كما دعا بالضحاك بن قيس الفهريّ، وأمره بالتوجّه ناحية الكوفة، وقال له: «سر حتى تمرّ بناحية الكوفة، وترتفع عنها ما استطعت، فمَن وجدته من الأعراب في طاعة عليّ عليه السلام فأغِرْ عليه... فأقبَل الضحاك، فنهب الأموال، وقتل مَن لقي من الأعراب، حتى مرّ بالثعلبيّة فأغار على الحاج، فأخذ أمتعتهم، ثُمّ أقبلَ فلقي عمرو بن عُمَيس بن مسعود الهذلي ـ وهو ابن أخي عبد الله بن مسعود (صاحب رسول الله) ـ فقتله في طريق الحاج عند القطقطانة، وقتل معه ناساً من الصحابة»[61].

هذه هي السياسة التي سار عليها معاوية بعد مسألة التحكيم؛ القتل والتشريد والترويع، وقد استمر على هذه السياسة فيما بعدُ أيضاً، فقد كتب نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة ـ أي عام الصلح ـ: «أن برئت الذمّة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته. فقامت الخطباء في كلّ كورة، وعلى كلّ منبر يلعنون علياً، ويبرؤون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشدّ الناس بلاءً ـ حينئذٍ ـ أهل الكوفة، لكثرة مَن بها من شيعة عليّ عليه السلام، فاستعمل عليهم زياد بن سميّة، وضمَّ إليه البصرة، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف؛ لأنّه كان منهم أيّام عليّ عليه السلام، فقتلهم تحت كلِّ حجر ومدر وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل، وسَمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشرّدهم عن العراق، فلم يبقَ بها معروف منهم»[62].

كما أنّه اتّبع سياسة التجويع وقطع أرزاق الناس وعانى من ذلك المسلمون الأمرّين ـ طبعاً باستثناء أنصاره من أهل الشام ـ ونكتفي هنا بذكر كتاب واحد من معاوية إلى عمّاله في جميع البلدان، قال فيه: «اُنظُروا مَن قامت عليه البيّنة أنّه يَحُب علياً وأهل بيته، فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه. وشفع ذلك بنسخة أُخرى: مَن اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به، واهدموا داره. فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق، ولا سيَّما الكوفة، حتى أنّ الرجل من شيعة عليّ عليه السلام ليأتيه مَن يثق به، فيدخل بيته، فيلقي إليه سرّه، ويخاف من خادمه ومملوكه، ولا يحدّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتُمنَّ عليه»[63].

والعمل الآخر الذي قام به معاوية، هو إثارته العصبيّة العنصريّة عند المسلمين العرب عموماً على غيرهم، فكان يقول عن أهل مصر: «إنّي وجدت أهل مصر على ثلاثة أصناف: فثلث ناس، وثلث أشبه الناس بالناس، وثلث لا ناس. فقال معاوية بن حديج لمعاوية بن أبي سفيان: فسِّر لنا يا أمير المؤمنين هذا. قال: أمّا الثلث الذين هم الناس فالعرب، والثلث الذين يشبهون الناس الموالي...»[64].

فلقد كان النظر إلى الموالي نَظَرَ سخرية واستهزاء وامتهان، بعيداً عمّا أراده الله الذي فضّل الناس بالتقوى والعمل الصالح. وقد دارت مشاجرة ذات مرّة بين عربيّ ومولى بين يدي عبد الله بن عامر، فقال المولى للعربيّ: «لا كَثَّر الله فينا مثلك. فقال له العربي: بل كَثَّر الله فينا مثلك. فَقِيل له: أيدعو عليك وتَدعو له؟! قال: نعم، يَكسَحون طُرَقنا، ويَخرِزون خِفافنا، ويَحُوكون ثِيابنا»[65].

ومن أخطر السياسات التي قام بها معاوية في سبيل تثبيت حكمه وسلطانه والإطاحة بخصومه، هي قيامه بوضع الأحاديث، واختراع الفِرَق العَقَدِية، ونشر القصّاصين الذي قاموا يروون فضائل الخلفاء ومعاوية، وذم أمير المؤمنين عليه السلام والعترة الطاهرة علیهم السلام، قال أبو جعفر الإسكافيّ ـ على ما نقله ابن أبي الحديد في شرح النهج ـ: &la

gate.attachment