ثنائية التطرّف الأُموي والاعتدال الحسيني (ج 1: التطرّف)

مقدمة

لعلّ أبرز ما نواجهه اليوم هو ظاهرة (التطرّف الديني)، والتي تُعدُّ من العوامل المهمّة لنشوء ظاهرة (الإرهاب)، التي اجتاحت العالم بشكل كبير عبر التفجيرات، والقتل المنظّم في حقّ الأبرياء والنّاس العُزَّل.

ولا تقتصر ظاهرة (التطرّف الديني) على إيجاد الإرهاب فقط، بل هي عامل مهمٌّ في نشوء ظواهر أُخرى، من قَبيل ظاهرة (التكفير) ـ التي يلصقها المتطرّفون بكلّ مَن يخالفهم في الفهم، ومن ثَمَّ يُرتّبون على ذلك جواز القتل، وحلّية المال ونحو ذلك ـ ومن قَبيل ظاهرة (التعصّب)، وظاهرة (إلغاء الآخر)، بحيث لا يقبل المتطرّف أيّ معارضٍ له في الفكر والرأي، ولا يمكن أن يتحاور معه عبر وسائل الحوار العلميّة، إلى غيرها من الظواهر الخطيرة التي ينتجها التطرّف الديني.

ولهذا صار لزاماً أن يتناول الباحثون والمثّقفون هذه الظاهرة ـ دراسةً، وتحليلاً، ونقداً ـ لغرض الوقوف على أسبابها ومناشئها، ومن ثُمَّ طرح العلاج والحلول النافعة، التي ربما تُقلّل من خطورة هذه الظاهرة، أو تمنع من انتشارها وتوسّعها أكثر.

وفي الطرف الآخر تقف ظاهرة (الاعتدال) و(الوسطيّة) التي عُرِف بها الإسلام، واتّصف بها المسلمون الحقيقيون على مرّ التاريخ، فهذا القرآن الكريم ـ كما سنلاحظ ـ يدعو من خلال آياته الكريمة إلى الوسطيّة والاعتدال في كلّ شيء، حتّى في تناول الطعام والشـراب، قال تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ﴾[1]، ويحاول إيجاد حالة التوازن بين الإفراط والتفريط اللّذينِ يُعدّان تطرّفاً وخروجاً عن الحدّ المرسوم، وهذا النّبي الأكرم صلى الله عليه وآله قد عُرِف ـ من خلال سيرته ـ بالاعتدال والوسطيّة في كلّ شيء؛ في العبادة، والأخلاق، والدّعوة إلى الإسلام، وكلّ ما يمتُّ إلى الإسلام بصلة، فكان الاعتدال متجسّداً في فكره، وقوله، وسلوكه، ثمَّ جاء من بعده أهل بيته الكرام عليهم السلام ؛ ليحملوا الاعتدال والوسطيّة مشـروعاً للدعوة الإسلاميّة، على غرار سيرة نبينا الكريم صلى الله عليه وآله، فكانوا بحقٍّ مثالاً حيّاً للاعتدال القرآني والوسطيّة المحمديّة، التي دعا إليها الإسلام؛ ولهذا صاروا عليهم السلام  مقياس الاعتدال والوسطيّة في الإسلام.

وهذا المقال هو محاولة لإعطاء صورة واضحة عن التطرّف، وعن أسبابه ومناشئه، ثمَّ محاولة إعطاء الحلول المناسبة على ضوء النهضة الحسينيّة، التي استهدفت فيما استهدفت، الوقوف بوجه التطرّف الديني والإرهاب الأُموي، وطرحت بكلّ وضوح منهج الإسلام في الاعتدال والوسطيّة.

 

ثمّ إنّ البحث يقع في ثلاثة محاور هي:

المحور الأوّل: التطرّف

المحور الثاني: الاعتدال والوسطيّة

المحور الثالث: اعتدال النهضة الحسينيّة في مواجهة مشروع التطرّف

المحور الأوّل: التطرّف

نتطرّق في هذا المحور إلى عدّة موضوعات:

أوّلاً: مفهوم التطرّف

التطرّف لغةً: مشتقّ من (الطَّرَف) بالتحريك، أي: (الناحية)[2]. و(تَطرَّف): أتى الطَّرَف، ويُقال: تطرّفت الشمس: دنت للغروب، كذا: جاوز حدّ الاعتدال ولم يتوسَّط، وتطرَّف الشـيء: أخذ من أطرافه[3]. والحاصل: إنّ التطرّف في اللّغة: تجاوز حدّ الاعتدال وعدم التوسّط.

التطرّف اصطلاحاً: قد ذُكر للتطرّف عدّة تعاريف نذكر منها:

1ـ مجاوزة الحدّ في الأمر المشروع[4].

2ـ الغلو في عقيدة، أو فكرة، أو مذهب، أو غيره، يختص به دين، أو جماعة، أو حزب[5].

3ـ الخروج عن القيم والمعايير، والعادات الشائعة في المجتمع، وتبنِّي قيم ومعايير مخالفة لها[6].

4ـ التطرّف: هو اتخاذ الفرد أو الجماعة موقفاً متشدِّداً إزاء فكر قائم، أو يحاول أن يجد له مكاناً في بيئة هذا الفرد أو الجماعة[7].

ولعلّ هناك تعاريف أُخرى، ولكنّها تقترب من هذا المضمون، ويمكن من خلال هذه التعاريف أن نصوغ تعريفاً جامعاً، فنقول: التطرّف: هو الخروج عن دائرة الاعتدال في الفكر، والعقيدة، والسلوك.

ثانياً: ظواهر التطرّف

للتطرّف عدّة ظواهر وأشكال نذكر بعضاً منها:

الظاهرة الأُولى: التعصّب وعدم قبول الآخر

وتُعدُّ هذه الظاهرة سمة بارزة لدى المتطرّفين، فتجدهم يتعصَّبون بشدّة لأفكارهم، وآرائهم، واتجاهاتهم، ولا يتقبّلون الفكر المضاد بأيّ حالٍ من الأحول، بل لا يسمحون لأنفسهم أن يفكّروا قليلاً بقناعاتهم ونظرياتهم؛ ولأجل ذلك، هم يعيشون حالة من حالات الانغلاق والعُزلة التامّة عن المحيط العلمي والثقافي، وخير مثال لذلك الخوارج، فقد ذكر المؤرّخون أنّهم اعتزلوا المجتمع الإسلامي ثقافيّاً وعلميّاً، وتعصّبوا لعقائدهم إلى حدّ كانوا يمنعون أصحابهم من الاستماع إلى مَن يناظرهم ممّن بعثهم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام  إليهم، أمثال: عبد الله بن عباس؛ لغرض محاججتهم وإقناعهم.

والتعصّب المذكور هو واحد من الظواهر التي حاربها القرآن الكريم في آياته، والنبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وأهل بيته عليهم السلام ، في سلوكياتهم وحياتهم، والشواهد على ذلك كثيرة سوف نعرضها في المحور الثاني.

الظاهرة الثانية: السطحيّة

وهذه الظاهرة قد يشوبها شيء من الخفاء؛ لأنَّ المتطرّفين يتظاهرون بالمعرفة والإحاطة والشمول، ولكنّهم في الواقع لا يعرفون إلّا القشور. والحقيقة أنَّ هذه الظاهرة لا يستطيع اكتشافها إلّا العلماء والمثقَّفون، وقد وصف النبي صلى الله عليه وآله الخوارج بأنَّهم يقرأون القرآن، ولكنّه لا يجاوز تراقيهم[8]؛ أي: لا يعرفون منه شيئاً.

الظاهرة الثالثة: التكفير والاتّهام

ولعلّ هذه الظاهرة هي أخطر ما يواجهه المجتمع الإسلامي؛ لأنَّ المتطرّف يُرتّب على تكفير الآخرين آثاراً، منها: القتل، واستباحة العرض والمال، ومن هنا نشأت ظاهرة الإرهاب في المجتمعات الإسلاميّة، فالتطرّف يقود إلى الإرهاب الديني، وما نقرأه في التاريخ من جرائم قتل، وإبادة، وانتهاكات، تقوم بها جماعة من المسلمين، وما نراه اليوم من قتل، وتفجير، وإبادة في حقّ المسلمين، إنّما نشأ من التكفير الذي يلصقه المتطرّفون بكلّ مَن يختلف معهم في الرأي.

فالخوارج ـ مثلاً ـ كفّروا أمير المؤمنين عليه السلام  وعامّة المجتمع الإسلامي؛ لأنَّهم يختلفون معهم في الرأي والقناعة.

وفي العصر الحاضر يُصدّر المتطرّفون السلفيون فتاوى التكفير في حقّ جميع المسلمين الذين يختلفون معهم في الرأي، حتّى تحوّلت هذه الفتاوى إلى مفخخات تحصد أرواح المئات من المسلمين في مختلف بقاع العالم الإسلامي.

فتنظيم (داعش) ذلك التنظيم الإرهابي الخطير الذي حصد أرواح الأُلوف من المسلمين وغيرهم وما زال، ما هو إلّا نتاج فتاوى التكفير التي يطلقها المتطرّفون بين الحين والآخر.

وهذه الظاهرة تتنافى مع روح الشريعة القائمة على التأنّي والتروّي، والتحقق قبل اتّهام الآخرين وترتيب الآثار على ذلك، وإليك بعض الآيات القرآنية:

1ـ قال تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا . . . ﴾[9].

2ـ قال تعالى: ﴿ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ ...﴾[10].

3ـ قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ  إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ...﴾[11].

4ـ قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ...﴾[12].

إلى غيرها من الآيات التي تنهى عن اتّهام الآخرين بدون دليل، وتدعو إلى التأنّي والتروّي والفحص عن ذلك، ويستفاد منها أيضاً لزوم الفحص عن عقائد النّاس، والبحث عن حقائق الإيمان، والتعامل معهم وفق الظاهر.

وأمّا سيرة النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته الكرام عليهم السلام ، فهي قائمة على كفاية حُسن الظاهر، والتعامل مع النّاس بحسب ظاهر إسلامهم، وعدم الفحص عن حقيقة ذلك في نفوسهم.

ومن ذلك الأحاديث الكثيرة الصادرة عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله التي مفادها أنّ: مَن تشهد الشهادتين فقد عُصم دمه، وماله، وعرضه، ومن ذلك سيرة النبي صلى الله عليه وآله في قبول الإسلام، كإسلام أهل مكّة بعد فتحها، فقد قبل إسلامهم بمجرّد النطق بالشهادتين دون الفحص عن حقيقة إسلامهم، مع علمه صلى الله عليه وآله بأنَّ بعضهم قد دخل إلى الإسلام مُكرَهاً، بل بعضهم كان منافقاً يُظهر الإيمان ويُضمر الكفر والجحود.

ومن الشواهد سيرة أمير المؤمنين عليه السلام  مع مَن نصب له الحرب، كأهل الجمل، وصفّين، والنهروان، فإنَّه لم يتهمهم بالكفر، وتعامل معهم على أساس أنَّهم مسلمون قد بغوا عليه.

يُضاف إلى ذلك أنَّ الحكم بارتداد المسلم وتكفيره يحتاج إلى دليل واضح، وبرهان ساطع، والمسألة ليست راجعة إلى قناعات المتطرّف وفهمه الخاص؛ إذ لعلّه مشتبه في ذلك، ومتوهّم في فهم حقيقة الشرك والارتداد، وما أكثر الاشتباهات التي يقع فيها العلماء، وما أكثر الاختلافات التي تصدر منهم.

ولو اتفقنا على حدود مفهوم الشرك والارتداد، ولم نختلف في تفاصيله وتطبيقاته، يبقى احتمال أنَّ ما نراه ـ بحسب الظاهر ـ من صنع المسلم قد لا يُطابق مقصوده، فلو رأيناه يسجد باتجاه صنم ـ مثلاًـ فليس لنا أن نحكم بكفره وارتداده لمجرّد ذلك، ما لم نتحقّق من حقيقة سجوده، فلعلّه لم يكن من قصده السجود للصنم، وإنَّما كان من قصده السجود لله تعالى؛ لتذكّر نعمة أنعمها عليه، ولكن اتفّق وجود صنم أمامه.

وعلى كلّ حال، هذه ظواهر ثلاث مهمّة يتّسم بها المتطرّف، وهناك ظواهر أُخرى يمكن ملاحظتها من خلال سلوك المتطرّفين، ولكنّنا لم نذكرها خوف الإطالة، وهذه الظواهر التي ذكرناها مختصـراً تحتاج إلى بحوث مستقلّة مستفيضة، ودراسات موسّعة للوقوف أكثر على جوانبها المهمّة بُغية الكشف عنها ومحاولة علاجها.

ثالثاً: صور التطرّف

للتطرّف عدّة صور، يجمعها عدم الاعتدال في الفكر والسلوك، ولكن لا بأس بذكر بعضها:

1 ــ التطرّف في العبادة

وهذه الصورة قد انتشرت في عصر النبي صلى الله عليه وآله؛ فقد اعتزل بعض الصحابة الحياة الاجتماعية وانقطعوا إلى العبادة تماماً؛ ممّا جعل النبي صلى الله عليه وآله ينتقد هذه الحالة، ويستدعي أُولئك الصحابة، ويُنبّههم على خطأهم.

2 ــ التطرّف في الخُلُق

والمقصود منه عدم التزام خطّ الاعتدال بين الإفراط والتفريط في الصفات الخُلقية، فالشجاعة  ـ مثلاً ـ اعتدال ووسطيّة؛ لأنَّها تتوسط الجبن والتهوّر، فهي اعتدال، وهما تطرّف، وهكذا بقيّة الصفات.

3 ــ التطرّف في العقيدة

والمقصود منها: أن يعيش الإنسان تجاه عقيدةٍ ما، بين إحدى حالتين، الأُولى: إنكارها ورفضها جملةً وتفصيلاً، بحيث لا يسمح لنفسه التفكير فيها أبداً، كما هو الحال بالنسبة للملحدين الذين يرفضون عقيدة التوحيد جملةً وتفصيلاً. والثانية: اعتناقها اعتناقاً سلبياً، بحيث يقبلها جملةً وتفصيلاً، ولا يستمع للنقد أو الملاحظة، فيبتعد عن الموضوعيّة المطلوبة في تقبُّل العقائد والأفكار.

والعقيدة الصحيحة: هي المعتدلة التي تتّسم بالوسطيّة، أي: العقيدة القائمة على أساس تقبُّل الفكرة التي لها أدّلتها الموضوعيّة، كما ترفض الفكرة التي لا تستند إلى ذلك، ولكن بدون تشنّج أو تشدّد.

فصاحب العقيدة المعتدلة هو ذلك الإنسان الذي يتّسم بالتوازن الفكري والنفسي، بحيث يتقبّل النقد والملاحظة بكلّ رحابة صدر، ويستمع للآخرين بشكل جدّي، ويفكّر فيما يقولون، ثمَّ يتحاور معهم تحاوراً علميّاً، قائماً على ردّ الدليل بالدليل والحجّة بالحجّة، ولو وجد فيما يعرضون من أفكار وآراء شيئاً من الحقيقة سارع إلى قبوله والتزامه.

وهذا المنهج (منهج الوسطيّة) هو منهج الإسلام الذي جاء به القرآن الكريم، وسار عليه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام  في دعوتهم الناس لهذا الدين الحنيف، ولولا هذه الوسطيّة لما انتشـر الإسلام ذلك الانتشار الواسع في عصر النبي صلى الله عليه وآله، في فترة زمنية قصيرة جداً.

رابعاً: أسباب التطرّف العقدي

التطرّف في المعتقد له أسبابه وعوامله، وهي كثيرة نذكر فيما يلي أهمّها:

1 ــ الجهل

وهو من الأسباب الخفيّة التي لا يعرفها إلّا العلماء والباحثون؛ لأنَّ المتطرّفين يتظاهرون بالمعرفة والإحاطة، فالخوارج كانوا يحفظون القرآن، ويحسنون قراءته حتّى عُرِفوا بـ(القرّاء)، وكانت هذه الصفة من الظواهر التي استوقفت الكثير من أصحاب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وجعلتهم يتردّدون في مدى مشروعية قتالهم؛ ممّا اضطر أمير المؤمنين عليه السلام  إلى كشف حقيقتهم، وأنَّهم جهلة لا يعرفون من الدين إلّا القشر.

وفي يومنا الحاضر نجد المتطرّفين يتظاهرون بالعلم والمعرفة، والإحاطة بقضايا الشريعة، ولكنّهم في الواقع أبعد ما يكونوا عن ذلك.

وورد في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام : «لا ترى الجاهل إلّا مُفرطاً أو مُفرِّطاً»[13]، والمُفْرِط أو المُفرِّط متطرّف؛ لأنَّه قد زاغ عن حدّ الاعتدال والوسطيّة؛ إذ الاعتدال يفترض أن لا يكون صاحبه مُفرطاً ولا مفرِّطاً، والإمام يوعز سبب ذلك إلى الجهل وعدم المعرفة.

وفي حديث عن الإمام الباقر عليه السلام  يجيب به عن سؤال لبعض أصحابه يقول فيه: «الدين واسع، ولكن الخوارج ضيّقوا على أنفسهم من جهلهم»[14].

والشيء اللافت هو أنَّ هؤلاء المتطرّفين يرون أنفسهم علماء، فهم يجهلون جهلهم، وبالاصطلاح المنطقي جهلهم مركب، ويُشير إلى ذلك كلام لأمير المؤمنين عليه السلام  يوصي به ولده الحسن عليه السلام : «إنَّ الجاهل مَن عدَّ نفسه بما جهل من معرفة العلم عالماً، وبرأيه مُكتفياً، فما يزال للعلماء مباعداً، وعليهم زارياً»[15].

2 ــ التعمّق

والمراد من التعمّق: المبالغة في الأمر والتشدد فيه[16].

وورد النهي عن التعمّق في الأحاديث، فمن ذلك ما رُوي عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، قوله: «إيّاكم والتعمّق في الدين، فإنَّ الله قد جعله سهلاً، فخذوا منه ما تطيقون، فإنَّ الله يحبّ ما دام من عملٍ صالحٍ، وإن كان يسيراً»[17].

وتُشير الروايات إلى علّة النهي عن التعمّق؛ لأنَّه يقود إلى الخروج عن الدين، كما في الحديث: «إنَّ أقواماً يتعمّقون في الدين يمرقون كما يمرق السهم من الرمية»[18]، بل تُشير بعض الروايات إلى أنَّه يقود إلى الكفر، فيخرج صاحبه عن الإيمان، ففي الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام : «والكفر على أربع دعائم، على التعمّق، والتنازع، والزيغ، والشقاق، فمَن تعمّق لم ينب إلى الحقّ»[19].

ومن خلال ملاحظة كلمات أهل اللّغة في معنى التعمّق، وملاحظة الأحاديث المتقدّمة وتطبيق فكرة التعمّق على الخوارج، مع ما هو معلوم من حالهم من التشدّد؛ نستطيع أن نخرج بنتيجة حاصلها: إنَّ التعمّق بمعنى التشدّد والتضييق، والتشدّد حالة نفسيّة يعيشها المتطرّف، تنشأ من جهله بروح الشريعة، وعدم إحاطته بجوانبها، وهذا يعني أنَّ التعمّق من إفرازات السبب المتقدّم، وهو الجهل وعدم معرفة الشريعة.

3 ــ حبّ الدنيا

لا يقتصر حبّ الدنيا على المظاهر الدنيويّة المعروفة، كحبّ المال، والنّساء، والشهرة، والمنصب، وغيرها من المظاهر الواضحة، بل حبّ الدنيا له صور خفيّة لا يعلمها حتّى صاحبها، فالعالم العارف إذا أُعجب بعلمه فقد أحبّ الدنيا، والعابد الناسك إذا أُعجب بعبادته فقد أحبّ الدنيا؛ لأنَّ العُجب من الدنيا، ومن هنا فقلّما ينجو الإنسان من هذا المرض العضال، ويحتاج المؤمن الواعي ـ دائماً ـ إلى مراقبة نفسه ومحاسبتها؛ لئلّا تقع في المحذور وهو غافل عنها.

وعلى هذا الأساس؛ فحبّ الدنيا له صور متعدّدة وكثيرة، بعضها واضح ظاهر، وبعضها الآخر خفي مستور، لا يكتشفه إلّا أصحاب البصائر، وإلى هذا المعنى يُشير الإمام زين العابدين عليه السلام  في كلام له يقول فيه: «إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه، وتماوت في منطقه، وتخاضع في حركاته، فرويداً لا يغرنَّكم...»[20].

ومن هنا كان (حبّ الدنيا) رأس كلّ خطيئة، فما من ذنبٍ، أو جريمة، أو انحراف، إلّا وكان حبّ الدنيا وراءه.

وحيث اتّضح مما تقدّم أنَّ التطرّف نحوٌ من الانحراف، فلابدّ أن يكون وراءه حبّ الدنيا؛ لأنَّ حبّ الدنيا أساس الانحراف ومنشؤه، وتُشير بعض الأحاديث إلى أنَّ المتطرّف يحبّ العلو، كما في حديث ورد فيه أنَّه قد تُليت بمحضر أمير المؤمنين عليه السلام  الآية المباركة: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * لَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾، فقال عليه السلام : «أهل حروراء منهم»[21].

وهذا الحديث يُلفت النظر إلى عدّة أُمور، منها:

1ـ إنَّ الدوافع التي تقف وراء حركة الخوارج كانت دوافع دنيويّة؛ بدليل قوله: ﴿  سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾، فالعبادة التي كانوا يتظاهرون بها، لم تكن خالصة لله تعالى، وإنَّما كان يشوبها العُجب والرياء، ولعلّ قوله: ﴿أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ يُشير إلى ذلك.

2ـ إنَّ تشخيص حقيقة الخوارج وواقعهم، لم يكن واضحاً لدى النّاس عامّة، بل لعلّ الأمر على  عكس ذلك، فهم كانوا يُشكّلون الطبقة المتديِّنة في المجتمع الإسلامي؛ ولهذا تصدّى الإمام عليه السلام  لإظهار حقيقتهم، وأنَّهم من مصاديق الآية الكريمة.

إذاً، تشخيص حقيقة المتطرّف ودوافعه ليس أمراً هيِّناً يتيسَّر لكلّ أحد؛ لمِا يظهر عليه من العبادة والالتزام، ممّا يجعل النّاس عامّة يتأثّرون به، وبالتالي ينقادون إلى مشروعه.

الشيخ إسكندر الجعفري مجلة الإصلاح الحسيني – العدد العاشر مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية ____________________________________________ [1] الأعراف: آية31. [2] اُنظر: ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب: ج9، ص216، (طَرَف). [3] اُنظر: مجمع اللغة العربية بالقاهرة، المعجم الوسيط: ص555، (طَرَف). [4] اُنظر: محمد علي إبراهيم، الإرهاب والعنف والتطرّف في ميزان الشرع: ص 10. [5] الشبل، د. علي عبد العزيز، الجذور التاريخية لحقيقة الغلو والتطرّف والإرهاب والعنف: ص 9. [6] مفهوم التطرّف وعلاقته بالإرهاب، مقال منشور على شبكة الأنترنت. [7] المصدر السابق. [8] البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري: ج4، ص179. [9] النساء: آية94. [10] الحجرات: آية6. [11] الإسراء: آية36. [12] النور: آية11. [13] خطب أمير المؤمنين عليه السلام ، نهج البلاغة: ج4 ص15. [14] الفيض الكاشاني، محمد محسن، الوافي: ج4، ص221. [15] الري شهري، محمد، ميزان الحكمة: ج1، ص464. [16] ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب: مادة (عمق). [17] المتّقي الهندي، علي، كنز العمال: ج3، ص35. [18] الأميني، عبد الحسين، الغدير: ج8، ص114. [19] خطب أمير المؤمنين عليه السلام ، نهج البلاغة: ج4، ص9. [20] الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج8، ص317. [21] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج33، ص352.

gate.attachment