التوظيف العقدي والديني لمأساة كربلاء في تراث المعصومين عليهم السلام

تمهيد

حينما يستشرف القارئ والمتتبع على كتب السير والتأريخ في العصور المتقدمة ـ بل والكتب الدينية كذلك وفي رأس قائمتها القرآن الكريم ـ بإمعان يخرج بإحصائية دقيقة ولائحة كبيرة من الحوادث المروّعة والوقائع المؤلمة التي وقعت بين بني البشر على مختلف ألوانهم وأصنافهم، وقد يتَّسم بعضها بأن تكون الجناية فيها عظيمة وبشعة، يتفنّن مرتكبوها بالطرق الإجرامية التي يُمارسونها مع أبناء نوعهم من البشر، مضافاً إليها أن الضحية والشخص المجني عليه قد تجرأوا عليه ظلماً وعدواناً، ومن دون أن يكون له أيُّ ذنب اقترفه، وبخلافها في موارد أُخرى؛ إذ لم تكن الحادثة وعملية إزهاق الأرواح فيها إلا جزاءً عادلاً للشخص المقتول، ونتيجةَ فعلٍ ارتكبه.

وأول حادثة تُطالعنا هي حادثة مقتل هابيل ـ نجل النبي آدم عليه السلام  ـ على يد أخيه قابيل، في قصة مفصّلة يسردها لنا القرآن الكريم في قوله تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآَخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ*لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ*إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ*فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ...}[1]، وهكذا وقعت أول جريمة نتيجة الحقد الذي حمله قابيل تجاه أخيه. وقد توالت الوقائع التاريخية المؤلمة في عالم الدنيا بعد هذه الحادثة.

ولا شك في أن كل واقعة وحادثة من هذا القبيل يبقى أثرها عالقاً في الأذهان، وخصوصاً لدى أولياء المقتول وذويه؛ مما يحدو بهم إلى بثّها والترويج لها، والحفاظ عليها في ذاكرة التأريخ وعِبر الأجيال اللاحقة.

إلا أن النقطة المهمة في هذه المسألة هو توظيفها من قِبَل بعض أولياء المقتول، والاستفادة منها لأجل الحصول على بعض المآرب والأهداف التي يبتغيها هؤلاء الأشخاص.

وهذا التوظيف ـ الذي نريد أن نُسلّط الضوء عليه في بحثنا ـ قد يكون في بعض الأحيان ذريعةً للمغرضين وأصحاب الأهواء للوصول إلى غايات شيطانية، من خلال إبداء التظلم لشخص من الناس، وإن لم يكن مظلوماً، بل كان القتل جزاءه العادل، فقد تذرّع بنو أُمية بمقتل عثمان بن عفان الذي قتله المسلمون المنتفضون عليه في قصر الخلافة جراء أعماله الباطلة؛ فنال جزاءه العادل على أيدي ثلة من المسلمين يتقدمهم مجموعة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، إلا أن معاوية ـ المتخاذل عن نصرته[2] ـ وأذنابه من الحزب الأُموي وظّفوا هذه الحادثة توظيفاً باطلاً؛ بغية الحصول على السلطة وتغيير مسار الخلافة الحقة التي عادت إلى أهلها ـ بعد ضياعٍ تجاوز العقدين ـ وتحويلها إلى مُلْكٍ عَضوض.

بل إن هناك صنفاً آخر من المنتهزين النفعيين وظَّف بعض الوقائع ـ التي تسالم المسلمون على أن أصحابها الذين راحوا ضحيتها قد ظُلموا أيّما ظلم ـ توظيفاً ظاهره التعاطف والانكسار مع صاحب المصاب، إلا أن واقع الحال يُبيِّن لنا خلاف ذلك، بل كان الغرض من ورائها الحصول على مصالحهم الدنيوية، من باب كلمة حق أُريد بها باطل، وهذا ما تمثّل في العباسيين الذين خرجوا لتغيير السلطة الأُموية وسحب البساط من تحتهم؛ متذرّعين بالثأر للمظلوم الشهيد في أرض كربلاء أبي عبد الله الحسين عليه السلام ـ الذي اعترف بمظلوميته كافة شرائح المجتمع إلا مَن شذَّ منهم ـ رافعين شعار الرضا لآل محمد[3]، غير أن الزمان كشف حقيقتهم للمسلمين وأظهر الغايات المبطّنة والنوايا الخبيثة التي كان يحملها هؤلاء القوم.

وفي قبال ذلك كله يوجد خط مغاير لكلا النموذجين المتقدمين، سمته البارزة وعلامته الشاخصة هي سلوك الطرق الواضحة والحقيقية من جهة، وتوظيفها والاستفادة منها لأجل إرجاع الحق لأهله والانتصار للمظلوم الذي هُظم حقه وأُخذ منه، أو سفك دمه ظلماً وعدواناً من جهة أُخرى. وكان روّاد هذا الخط والمنهج الحق هُمْ أهل البيت عليهم السلام ؛ إذ إنه عُرف عنهم توظيفهم للحوادث الحقة وابتعادهم عن التشبث بالباطل، واستخدامهم لهذه الوقائع الحقة لغرض هداية الناس.

ومن أبرز وأوضح أمثلة هذا الكلام هو الاستفادة من المأساة والمظلومية التي وقعت في كربلاء، وتوظيفهم عليهم السلام  لها توظيفاً يصبُّ في الصالح الديني والتركيز عليه تركيزاً عقدياً ودينياً.

 

الوجهة الفقهية لإبداء التظلُّم

يُعتبر إبداء التظلّم والترويج لبيان المظلومية من المفاهيم التي تعارف عليها الناس فيما بينهم؛ فلا تجد مَن يستنكر على مظلوم فيما لو أراد بيان مظلوميته أمام الآخرين، بل قد أجاز الشرع المقدس للفرد المسلم إبداء تظلمه وذكر الوقائع التي جرت عليه، وإن استلزم من ذلك ذِكْر ما يُعتبر انتقاصاً من الظالم، بل عُدَّ هذا النمط من الكلام من الموارد المستثناة من الغيبة، فلا يأثم المظلوم بذلك[4].

 

توظيف المظلومية منهج قرآني

يُعدُّ توظيف المظلومية وإبداؤها للأجيال المتأخرة من المناهج التي اعتمدها القرآن الكريم في آيات كثيرة؛ من أجل الحصول على نتائج مهمة في سبيل هداية الإنسان، لعل من أهمها بيان أن المنتصر للمظلوم هو الله عز وجل، ومن النماذج البارزة لهذه الآيات الكريمة هي:

 1ـ ما ورد في سورة القمر، عند قوله عز مِن قائل: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ*فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}[5]، حكاية عن النبي نوح؛ إذ إنه عليه السلام  بعد أن قاسى من قومه العذاب الروحي، وبعد أن قرروا أن يرجموه فيما لو بقي على معتقده ولم يتراجع عن ذلك[6]، دعا الله عز وجل أن ينتصر له وينصره؛ وقد انتصر له الله تعالى من هؤلاء القوم، وانتقم منهم شرَّ انتقام، كما بينت ذلك الآيات التي ذكرت في هذا السياق.

2ـ قوله عز وجل في سورة هود، ناعياً ناقة النبي صالح  عليه السلام  والمأساة التي مرّ بها هذا النبي، من تمرد قومه وتجرئ على معجزته التي جاء بها، فيقول: {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ*فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ*فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ*وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ[7]. وقد ضمّ الله تعالى في سورة الشمس إلى جانب مظلومية عَقْرِ الناقة التي جاء بها النبي معجزة ودليلاً على صدق نبوته مظلومية أُخرى، وهي مظلومية تكذيب النبي والمسّ بكرامته متهمينه بالكذب والافتراء، كما في قوله تعالى: {فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها}[8]. والملفت للنظر في هذه الحادثة أن الله عز وجل انتقم منهم شر انتقام؛ إذ أصبحوا في ديارهم جاثمين.

3ـ قوله عز وجل في تصوير المأساة التي مرّ بها النبي هارون عليه السلام ، عندما خلَّفه أخوه النبي موسى عليه السلام  مع قومه وذهب إلى ميقات ربه، وحصل خرق الدستور الإلهي من قِبَل السامري وقومه؛ فقال لأخيه ـ حين عاتبه على ما جرى ـ: {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[9]، مستعرضاً في ذلك المأساة والمظلومية التي وقعت عليه جرَّاء الاعتداء الذي مارسه هذه الفئة الضالة عن الحق؛ إذ إنهم مضافاً إلى مصادرة جهوده ـ بصفته نبي تحمَّل المشاق والمصاعب من أجل خلاص بني إسرائيل ـ وحرف الناس عن المسار الحق استغلوا انفراده عن أخيه واستضعفوه في تلك الفرصة التي انتهزها عدو الله السامري وشارفوا على التمكن قتله.

4ـ جاءت بعض الآيات في سورة التكوير يصور الباري عز وجل من خلالها المظلومية التي وقعت على النفس البريئة ـ على جميع الاحتمالات في المعنى المراد منها ـ التي وأدها أعداء الإنسانية، ومن دون أيّ ذنب أو جناية ارتُكبت، فاستعرض هذه المظلومية أيّما استعراض، ووظّفها على أتم وجه من أجل أن يحرك الرأي العام ضد هذا التيار العدواني في الدنيا قبل الآخرة، بقوله: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ*بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}[10]، إلى غير ذلك من الآيات التي تم من خلالها توظيف المظلومية والمأساة التي مرت على بعض الأولياء والصالحين.

 

الجنبة العقدية والدينية في توظيف مظلومية ومأساة كربلاء

لا يحق لنا أن نعتقد بأن أحداً من الأئمة كان يتظاهر أمام الناس بالحزن والتعاطف مع واقعة كربلاء بمظهر وتعاطف لا واقع له، وليس لأحد منا أن ينكر ما لحادثة الطف الدامية من وقع وأثر في نفوس المعصومين عليهم السلام ؛ فما ينعكس على تصرفاتهم وأقوالهم حين تذكُّرهم لما جرى ـ بل ما سيجري ـ على السبط الشهيد الإمام الحسين عليه السلام  ما هو إلا فعل متوقع ونتيجة طبيعية تصدر من ذوي المجني عليه، بل إن النفس التي يحملها المعصوم عليه السلام  تجعل منه أشد الناس تأثُّراً لتذكر أيّ حادثة مؤلمة راح ضحيتها الأبرياء من الناس، فضلاً عن كون المجني عليه في هذه الحادثة هو ريحانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم  وخامس أصحاب الكساء والبقية الباقية منهم.

إلا أنهم عليهم السلام  بصفتهم منصَّبون من قِبَل الله عز وجل لهداية البشر فلا يُعاب عليهم فيما لو اعتمدوا طريقة الاستفادة من هذه المظلومية والمأساة المؤلمة، وتوظيفها للأغراض العقدية والدينية، بما أنها منهج اعتمده القرآن لبيان بعض المسائل المهمة التي تصبُّ في صالح البشر وهدايتهم.

وليس الغرض من بحثنا هذا أن ندوّن جميع المسائل العقدية والدينية التي وظّف لها أهل البيت عليهم السلام  مظلومية الإمام الحسين عليه السلام ، وإنما نكتفي بذكر بعض العيِّنات من ذلك، تاركين الطريق سالكاً أمام الباحثين الأعزاء بعد رسم خارطة الطريق لهم في المقام، وإعطاء الخطوط العريضة للموضوع، ومن جملة هذه الأُمور هي:

 

الأول: التركيز على أن أعداء الإمام الحسين عليه السلام  هم أعداء الله

تدخل تحت لائحة هذا العنوان مجموعة من نصوص التراث الديني التي وردت في خصوص مأساة واقعة الطف، التي كسر أهل البيت عليهم السلام  من خلالها الطوق الخرافي الذي بناه علماء السوء ـ من أتباع السلطة الحاكمة ـ الذين رفعوا لافتةً عنوانها: عدم السماح للناس بالحكم على أيّ أحد من المسلمين بالكفر بمجرد أن يظهر الإسلام وإن جاء بما يوجب الكفر والإلحاد؛ كل ذلك من أجل منح الحصانة لأزلامهم العتاة المردة الذين يرتكبون الموبقات والآثام، فتبلور من ذلك عقيدة الإرجاء، إلا أن النصوص الصادرة عنهم سلام الله عليهم في هذا الخصوص ـ بداية من الفترة النبوية ونهاية بخطابات الإمام الحجة المنتظر عجل الله فرجه الشريف  ـ أبطلت هذه الفكرة من خلال الحكم على هذه الفئة الضالة التي ارتكبت مجزرة كربلاء بهذه الكيفية البشعة، بل كل مَن اصطف معهم ورضي بفعالهم الشنيعة، ومن جملة النصوص البارزة لهذا العنوان هي:

1ـ ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات، قال&: حدثني محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري، عن أبيه، عن علي بن محمد بن سالم، عن محمد بن خالد، عن عبد الله بن حماد البصري، عن عبد الله بن عبد الرحمان الأصم، عن مسمع بن عبد الملك، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال: كان الحسين عليه السلام  مع أُمِّه تحمله، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فقال: لعن الله قاتليك، ولعن الله سالبيك، وأهلك الله المتوازرين عليك، وحكم الله بيني وبين مَن أعان عليك. فقالت فاطمة: يا أبه، أيّ شيء تقول؟ قال: يا بنتاه، ذكرت ما يُصيبه بعدي وبعدك من الأذى والظلم والغدر والبغي، وهو يومئذ في عُصبة كأنهم نجوم السماء يتهادون إلى القتل، وكأني أنظر إلى معسكرهم وإلى موضع رحالهم وتربتهم. فقالت: يا أبه، وأين هذا الموضع الذي تصف؟ قال: موضع يُقال له: كربلاء، وهي ذات كرب وبلاء علينا وعلى الأُمة، يخرج عليهم شرار أُمتي، ولو أن أحدهم شفع له مَن في السماوات والأرضين ما شُفعوا فيهم، وهم المخلدون في النار. قالت: يا أبه، فيُقتل؟ قال: نعم يا بنتاه، وما قُتِل قتلته أحد كان قبله، وتبكيه السماوات والأرضون والملائكة والوحش والحيتان في البحار والجبال، لو يؤذن لها ما بقي على الأرض متنفّس[11].

2ـ ورد في نص آخر عن الإمام زين العابدين عليه السلام ، ترويه له أسماء بنت عميس حول ولادة الإمام الحسين عليه السلام  فتقول: هلمي ابني يا أسماء؟ فدفعته إليه في خرقة بيضاء، ففعل به كما فعل بالحسن عليه السلام ، قالت: وبكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم قال: إنه سيكون لك حديث، اللهم العن قاتله، لا تُعلمي فاطمة بذلك... فلما كان يوم سابعه جاءني النبي صلى الله عليه وآله وسلم  فقال: هلمي ابني. فأتيته به، ففعل به كما فعل بالحسن... ثم وضعه في حجره، ثم قال: يا أبا عبد الله، عزيز عليّ. ثم بكى، فقلت: بأبي أنت وأُمي فعلت في هذا اليوم وفي اليوم الأول فما هو؟ قال: أبكي على ابني هذا تقتله فئة باغية كافرة من بني أُمية لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة، يقتله رجل يثلم الدين ويكفر بالله العظيم، ثم قال: اللهم [و] إني أسألك فيهما ما سألك إبراهيم عليه السلام  في ذريته، اللهم أحبهما وأحِبّ مَن يحبهما، والعن مَن يُبغضهما ملء السماوات والأرض[12].

3ـ ومن أوضح النصوص التي أطَّرت لهذه الفكرة هي مجموعة من الزيارات التي تُقرأ عند زيارة الإمام الحسين عليه السلام  وهي كثيرة جداً، منها:

أ ـ ما ورد في مناسبات مختلفة وفي نصوص كثيرة، كزيارة عرفة وعاشوراء وزيارة وارث أيضاً: لَعَنَ الله أُمَّةً قَتَلَتْكَ، ولَعَنَ الله أُمَّةً ظَلَمَتْكَ، ولَعَنَ الله أُمَّةً سَمِعَتْ بِذَلِكَ فَرَضِيَتْ بِه[13].

ب ـ لُعِنَتْ أُمَّةٌ قَتَلَتْكُمْ وأُمَّةٌ خَالَفَتْكُمْ وأُمَّةٌ جَحَدَتْ وِلايَتَكُمْ وأُمَّةٌ ظَاهَرَتْ عَلَيْكُمْ وأُمَّةٌ شَهِدَتْ ولَمْ تُسْتَشْهَدْ، الْحَمْدُ لِله الَّذِي جَعَلَ النَّارَ مَأْوَاهُمْ وبِئْسَ وِرْدُ الْوَارِدِينَ وبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ[14].

جـ ـ وقد ورد في زيارة أُخرى: أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَ الصَّلاةَ، وَآتَيْتَ الزَّكاةَ، وَأَمَرْتَ بِالمَعْرُوفِ وَنَهَيْتَ عَنِ المُنْكَرِ، وَجاهَدْتَ المُلْحِدِينَ، وَعَبَدْتَ الله حَتّى أَتاكَ اليَقِينُ، السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكاتُهُ[15].

د ـ وقد روى ابن قولويه زيارة أُخرى فقال: حدثني أبي ومحمد بن عبد الله، عن عبد الله بن جعفر الحميري، عن عبد الله بن محمد بن خالد الطيالسي، عن الحسن بن علي، عن أبيه، عن فضيل بن عثمان الصايغ، عن معاوية بن عمار، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام : ما أقول إذا أتيت قبر الحسين عليه السلام ؟ قال: قل: السلام عليك يا أبا عبد الله، صلى الله عليك يا أبا عبد الله، رحمك الله يا أبا عبد الله، لعن الله مَن قتلك، ولعن الله مَن شرك في دمك، ولعن الله مَن بلغه ذلك فرضي به، أنا إلى الله من ذلك بريء [16].

هـ ـ وقال أيضاً: حدثني الحسن بن عبد الله بن محمد بن عيسى، عن أبيه، عن جده محمد بن عيسى بن عبد الله، عن إبراهيم بن أبي البلاد، قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام : ما تقول في زيارة قبر الحسين عليه السلام ، فقال لي: ما تقولون أنتم فيه؟ فقلت: بعضنا يقول: حجة. وبعضنا يقول: عمرة. قال: فأيّ شيء تقول إذا أتيت، فقلت: أقول: السلام عليك يا أبا عبد الله، السلام عليك يا بن رسول الله، أشهد أنك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة. وأشهد أن الذين سفكوا دمك واستحلوا حرمتك ملعونون معذبون على لسان داود وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون[17].

4ـ ورد عن الإمام الحسن العسكري صلوات مفصلة في حق النبي وأهل بيته عليهم السلام ، وحين وصل الكلام إلى الإمام الحسين عليه السلام  قال: ...اللهم صل على الحسين بن علي المظلوم الشهيد، قتيل الكفرة، وطريح الفجرة، السلام عليك يا أبا عبد الله، السلام عليك يا بن رسول الله، السلام عليك يا بن أمير المؤمنين، أشهد موقناً أنك أمين الله وابن أمينه، قُتلت مظلوماً، ومضيت شهيداً، وأشهد أن الله تعالى الطالب بثارك ومنجز ما وعدك من النصر، والتأييد في هلاك عدوك، وإظهار دعوتك، وأشهد أنك وفيت بعهد الله، وجاهدت في سبيل الله، وعبدت الله مخلصاً حتى أتاك اليقين. لعن الله أُمة قتلتك، ولعن الله أُمة خذلتك، ولعن الله أُمة ألّبت عليك[18].

إلى غير ذلك من النصوص التي تضمَّنت عبائر تدل على المعنى الذي ذكرناه في هذه النقطة، إلا أننا تركناها رعاية للاختصار.

وفي هذه الروايات ـ والمضامين التي يُزار بها الإمام الحسين عليه السلام  ـ دلالات واضحة على تربية أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام  على حسم بعض المسائل المهمة التي باتت محل جدل بين سائر فرق المسلمين؛ إذ بعد ظهور التيارات المنحرفة والمشوشة لأفكار المسلمين في كثير من المسائل والتي من جملتها الإرجاء وعدم الحكم على أحد بالكفر أو استحقاق العذاب ما دام يشهد الشهادتين؛ فجاء حكمهم عليهم السلام  في روايات كثيرة ـ بصريح القول ـ على جمع كبير من الذين يدّعون الإسلام بأنهم مخلدون في النار وأنهم مستحقون للعذاب الإلهي. من خلال قوله صلى الله عليه وآله وسلم : لعن الله قاتليك، ولعن الله سالبيك، وأهلَكَ الله المتوازرين عليك، وحكم الله بيني وبين مَن أعان عليك، وكذلك قوله: يخرج عليهم شرار أُمتي، ولو أن أحدهم شفع له مَن في السماوات والأرضين ما شُفّعوا فيهم وهم المخلدون في النار، وأوضح منها نصوص الزيارات المتقدّمة. في حين أن بعض أدعياء الإسلام يتردد في الحكم عليهم بذلك.

 

الثاني: التثقيف لزيارة قبور المعصومين عليهم السلام

ما نريد ذكره في هذه النقطة ليس تكراراً لما يُبحث في موضوع زيارة قبور الأنبياء والأئمة عليهم السلام ، من التطرق إلى ثواب الزيارة وآدابها وأوقاتها، وغير ذلك من الجوانب التي اعتاد الباحثون على الكلام حولها، وإنما يتميز عنها بجهة أُخرى أردنا تسليط الضوء عليها، وهي أن زيارة قبور الأئمة والأولياء عليهم السلام  لم تكن متعارفة ـ بما لها من قداسة واحترام ـ في أوساط المسلمين عموماً، وإنما كانت منحصرة في الوسط الشيعي فقط؛ ولم يكن يلحظها المسلمون كممارسة من قِبَل الشيعة لساداتهم وأئمتهم الذين دُفنوا في ذلك الزمان؛ لعدم وجود قبر منفصل في بقعة معينة يقصدها أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام  أمام الملأ من المسلمين، فلم يكن قبر أمير المؤمنين عليه السلام  معلوماً لجميع المسلمين في ذلك الزمان، بل أُخفي قبره في بادية الكوفة ضمن رقعة جغرافية شاسعة لا يعلم مكانه إلا فئة خاصة جداً، ولم يسمح الأئمة لمن علم مكان القبر من أصحابهم بالتدليل عليه؛ لقضايا أمنية تعود لصالح الشيعة من جهة، وخوفاً على جثمان أمير المؤمنين عليه السلام  من أن يُنبَش القبر من قِبَل أعدائه الذين لا يرعون حرمةً لشيء في قبال مآربهم. ولهذا السبب لم تكن زيارته متعارفة بين المسلمين في ذلك الزمان، هذا بالنسبة إلى قبر أمير المؤمنين عليه السلام .

وأما قبر سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء÷، فلم يكن معلوم المكان لأيّ أحد من المسلمين على الإطلاق ـ بل لم يزل مخفياً ومغيباً عن الأنظار ـ فمع كونها ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ورغم أنها دُفنت في أرض المدينة، إلا أنك لا تجد أحداً من المسلمين يعلم مكان قبرها÷، وعلى هذا الأساس؛ فمن الطبيعي جداً أن يغفل المسلمون أمر زيارتها والتردد على قبرها.

غاية الأمر هو أن مكان قبر الإمام الحسن المجتبى ـ السبط الأول للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم  ـ كان معلوماً لدى جميع أهل المدينة، إلا أن زيارة قبره من قِبل أتباعه ـ فيما لو كانوا يزورونه بمرأى ومسمع من المسلمين ـ لم تكن ملفتة للنظر؛ لكثرة القبور في ذلك المكان وهو بقيع الغرقد، والتي كان من ضمنها قبر حمزة سيد الشهداء في زمانه؛ فلا يلتفت المسلمون إلى أن زيارته عليه السلام  من قِبل أتباعه وشيعته للقدسية التي يمتاز بها على سائر الناس؛ أو لكونه إماماً مفترض الطاعة.

نعم، كان المَعْلَم البارز لدى جميع المسلمين بصفته قبراً يُزار من قِبل بعضهم هو قبر خير الخلق على الإطلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  المدفون في المدينة المنورة، وكان أول مَن زاره من الناس وتردد عليه كثيراً هم أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء وسبطاه الحسن والحسين عليهم السلام ، إلا أن بعضاً من المسلمين يرى أن هذه الممارسة كانت بدافع العاطفة الأُسرية بينه صلى الله عليه وآله وسلم  وبينهم، وأما سائر المسلمين فإنما كانت زياراتهم له صلى الله عليه وآله وسلم  ضمن زيارة المسجد النبوي الذي يقصده الناس من سائر المدن والبلدان النائية، ولم يكن الغرض الوحيد زيارة القبر بما له من قداسة كما هو عليه في هذه الأزمنة.

والمحصلة النهائية في هذه النقطة هي: أن زيارة قبور الأئمة عليهم السلام  في تلك الفترة لم تكن ثقافة معروفة بين المسلمين وسمة واضحة من سمات أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، ومن هنا؛ وظف أئمة أهل البيت مظلومية الإمام الحسين عليه السلام  ومأساته الأليمة للتثقيف لزيارة قبره الشريف وقبور سائر المعصومين عليهم السلام ؛ إذ سجل لنا تراثهم الروائي كمّاً هائلاً من الروايات التي تتكلم عن زيارة الإمام الحسين المظلوم الشهيد عليه السلام ، وأن زيارته فريضة واجبة على كل مَن يُقرّ له بالإمامة، بالإضافة إلى تعليمهم طرق التخاطب التي يُزار بها الإمام من قِبل شيعته ومواليه، فقد روى الحميري عن الإمام الصادق عليه السلام  أنه قال: ... زوروه ولا تجفوه؛ فإنه سيد شباب الشهداء، وسيد شباب أهل الجنة، وشبيه يحيى بن زكريا، وعليهما بكت السماء والأرض[19]، وفي رواية أُخرى عن الإمام... قلت: جُعلت فداك، وما هذا الذي وصفت ولم تُسمه؟ قال: زيارة جدي الحسين بن علي‘، فإنه غريب بأرض غربة، يبكيه مَن زاره، ويحزن له مَن لم يزره، ويحترق له مَن لم يشهده، ويرحمه مَن نظر إلى قبر ابنه عند رجله، في أرض فلاة لا حميم قربه ولا قريب، ثم مُنع الحق وتوازر عليه أهل الردة، حتى قتلوه وضيعوه وعرّضوه للسباع، ومنعوه شرب ماء الفرات الذي يشربه الكلاب، وضيعوا حق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ووصيته به وبأهل بيته، فأمسى مجفواً في حفرته، صريعاً بين قرابته وشيعته بين أطباق التراب، قد أوحش قربه في الوحدة والبُعد عن جده، والمنزل الذي لا يأتيه إلا مَن امتحن الله قلبه للإيمان وعرّفه حقنا. فقلت له: جُعلت فداك، قد كنت آتيه حتى بُليت بالسلطان وفي حفظ أموالهم وأنا عندهم مشهور، فتركت للتقية إتياته وأنا أعرف ما في إتيانه من الخير. فقال: هل تدري ما فضل مَن أتاه وما له عندنا من جزيل الخير؟ فقلت: لا. فقال: أمّا الفضل فيباهيه ملائكة السماء، وأما ما له عندنا فالترحم عليه كل صباح ومساء[20].

فإذا أضفنا إلى ذلك ما تقدم معنا من النصوص التي خاطب بها الأئمة عليهم السلام  الإمام الحسين عليه السلام  أو التي علموا أتباعهم كيفية مخاطبتهم له عليه السلام ، بما تحمل من مضامين تدل على علوّ منزلته عليه السلام  وعظيم قدره عند الله عز وجل، والتي انطلقوا فيها من بيان مظلوميته والمأساة التي لاقاها سلام الله عليه؛ فيتضح لنا المغزى من تأكيدهم على زيارته عليه السلام  من منطلق حقيته وإمامته وأنه مفترض الطاعة.

ونُلفِت أنظار القراء الكرام إلى أن هذه النقطة بالخصوص تختزل عدة حقائق دينية وعقدية مهمة، إذ تحمل في طياتها المعارف التوحيدية، والإقرار بالنبوة، والمعاد، والتعريف بحقيقة الإمام وحقه على الناس وغيرها من العلوم التي أضحت واضحة للجميع بعد تداول النصوص المختصة بزيارته سلام الله عليه وقراءتها في مناسبات عديدة.

 

الثالث: التأكيد على لزوم التضحية من أجل الدين

من الأُمور الغريزية لدى الإنسان هو حب الدعة والراحة والعافية، والبحث عن حياة هادئة بمنأى عن المصادمات مع الآخرين؛ وهذا الأمر في حد ذاته ليس معيباً فيما لو كان بنحو من الاعتدال، وإنما الإفراط فيه يكون باعثاً إلى التخاذل وضعف المواقف ضد الباطل والمبطلين، وهذه هي الصفة البارزة لدى غالبية المجتمعات وفي شتّى العصور والأزمنة، ولما كانت هذه الخصيصة نقطة ضعف شخصها الطغاة والظلمة أوجدوا أساليب متشابهة يتبعونها لإخافة الناس وإرعابهم مما جرأهم على التمادي في الظلم والاستبداد؛ ولهذا السبب سلّط الأئمة عليهم السلام  الضوء على لزوم تحمل المصاعب والتضحية بكل غالٍ ونفيس في سبيل الاصطفاف مع الحق وأهله، موظفين ـ في ذلك ـ المظلوميةَ التي تحمّلها الإمام الحسين عليه السلام  وأهل بيته في سبيل الله، ومستعرضين ما تحمَّله الدعاة والهداة والمستضعفين في العصور المتقدمة، فقد أُثر عن الإمام زين العابدين عليه السلام  حين سأله المنهال فقال له: كيف أمسيت يا بن رسول الله؟ فقال: ويحك! كيف أمسيت؟! أمسينا فيكم كهيئة بني إسرائيل في آل فرعون، يُذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، وأمست العرب تفتخر على العجم بأن محمداً منها، وأمسى آل محمد مقهورين مخذولين، فإلى الله نشكو كثرة عدونا، وتفرُّق ذات بيننا، وتظاهر الأعداء علينا[21]، وروى لنا ابن قولويه أيضاً قال: حدثني أبي رحمه الله وجماعة مشايخي، عن سعد بن عبد الله، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن أبي داود المسترق، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال: بكى علي بن الحسين على أبيه حسين بن علي‘ عشرين سنة أو أربعين سنة، وما وُضع بين يديه طعاماً إلا بكى على الحسين، حتى قال له مولى له: جُعلت فداك يا بن رسول الله، إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين. قال: إنما أشكو بثّي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون؛ إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني العبرة لذلك[22]، وقد استعرض عليه السلام  ـ في رواية أُخرى مشابهة لما ذكرناه سابقاً ـ عدد القتلى الذين سقطوا في هذه الواقعة الأليمة حيث قال عليه السلام : أما آن لحزنك أن ينقضي ؟ فقال له: ويحك! إن يعقوب النبي كان له اثنا عشر ابناً فغيب الله واحداً منهم فابيضت عيناه من كثرة بكائه عليه، واحدودب ظهره من الغم، وكان ابنه حياً في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي، فكيف ينقضي حزني؟![23]، وفي هذا التظلم والشكوى من الواقع المرير الذي يعانيه سلام الله عليه إثر ما جرى عليهم في واقعة كربلاء الأليمة رسالة ودعوة واضحة إلى أنه يتحتم على كل مؤمن أن يُعاهد الله بتحمل كل المصائب والمآسي في سبيله ومن أجل نصرة دينه.

 

الرابع: التشجيع على قراءة القرآن والتمعّن فيه

تتعدد الأساليب والطرق التي اتبعها أهل البيت عليهم السلام  في دعوة شيعتهم وتشجيعهم إلى قراءة القرآن والتدبر في آياته؛ لما لذلك من تأثير على روحية الفرد المسلم وعلى تصرفاته وسلوكياته تجاه نفسه ومجتمعه، وقد ورد كَمٌّ هائلٌ من الأحاديث التي تحبّب قراءة الكتاب، كما روى لنا علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود المنقري، عن حفص قال: سمعت موسى بن جعفر‘ يقول: لرجل أتُحب البقاء في الدنيا ؟ فقال: نعم. فقال: ولم؟ قال: لقراءة {قل هو الله أحد}، فسكت عنه، فقال له بعد ساعة: يا حفص، مَن مات من أوليائنا وشيعتنا ولم يُحسن القرآن عُلّم في قبره ليرفع الله به من درجته؛ فإن درجات الجنة على قدر آيات القرآن، يُقال له: اقرأ وارقَ. فيقرأ ثم يرقى...[24]، ولأجل تشجيع أتباعهم وشيعتهم لقراءة القرآن استخدموا عليهم السلام  هذه النقطة التي ينجذب المحب لأهل البيت من خلالها لقراءة القرآن والتأمل فيه، وهي بيان السور والآيات التي ترتبط بالإمام الحسين عليه السلام ، أو التي تنطبق عليه باعتباره المصداق الأجلى والأوضح لها، وهذا ما نلحظه في التراث الديني الوارد عنهم عليهم السلام  بكثرة كاثرة، إذ إنهم بدأوا في تربية شيعتهم من نقطة الانطلاق المؤثرة في نفوسهم، ألا وهي بيان الترابط الوثيق بين الإمام الحسين المظلوم والآيات القرآنية، وبينوا المواضع التي عُني فيها الإمام الحسين عليه السلام ؛ فقد ورد عن أبي عبد الله أنه قال: اقرأوا سورة الفجر في فرايضكم ونوافلكم؛ فإنها سورة الحسين بن علي‘، مَن قرأها كان مع الحسين عليه السلام  يوم القيامة في درجته من الجنة، إن الله عزيز حكيم[25]، وفي ذيل هذه الرواية ما يبعث بالقارئ إلى الدهشة والاشتياق لإدمان قراءة هذه السورة بغية حصوله على الأجر الذي يترتب عليها، وهو الكون مع الإمام الحسين عليه السلام  سيد شباب أهل الجنة.

وكم هو واضح الفرق بين دخول الجنة أو الرُّقي في درجاتها ـ كما في سائر الروايات التي تتكلم عن ثواب قراءة القرآن ـ وبين الكون مع الإمام الحسين في درجته، فيحضى برؤيته عليه السلام  وصحبته في تلك النُّزل التي تتمناها ملائكة الرحمان في الدنيا والآخرة.

وقد رويت هذه الرواية في البحار بتفصيل أكثر، يتضمن حواراً دار بين الإمام وبعض الحضار آنذاك، فقال&: كنز جامع الفوائد وتأويل الآيات الظاهرة: روى محمد بن العباس بإسناده عن الحسن بن محبوب بإسناده عن صندل، عن دارم بن فرقد قال: قال أبو عبد الله عليه السلام : اقرؤوا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم؛ فإنّها سورة الحسين عليه السلام  وارغبوا فيها، رحمكم الله. فقال له أبو أسامة ـ وكان حاضراً المجلس: كيف صارت هذه السّورة للحسين عليه السلام  خاصّة؟ فقال: ألا تسمع إلى قوله: {يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وادْخُلِي جَنَّتِي}. إنّما يعني بها: الحسين بن عليّ‘، فهو ذو النّفس المطمئنّة الرّاضية المرضيّة، وأصحابه من آل محمّد ـ صلوات اللَّه عليهم ـ الرّاضون عن اللَّه يوم القيامة، وهو راضٍ عنهم، وهذه السّورة نزلت في الحسين بن عليّ‘، وشيعته وشيعة آل محمّد خاصّة. مَن أدمن قراءة الفجر، كان مع الحسين عليه السلام  في درجته في الجنّة، إنّ اللَه عزيز حكيم[26].

وأما تفسيرهم للآيات القرآنية التي فُسرت من قِبلهم عليهم السلام  فهي كثيرة جداً، كما ذكر جعفر بن محمد بن قولويه، قال: حدثني أبي، عن سعد بن عبد الله، عن يعقوب بن يزيد وإبراهيم بن هاشم، عن محمد بن أبي عمير، عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله عليه السلام ، في قول الله عز وجل: «{وإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}، قال: نزلت في الحسين بن علي‘»[27]. وغير ذلك من الروايات التي يطول الكلام بذكرها وسوف يأتي بعضها في النقطة اللاحقة عند الكلام حول الأخذ بالثأر.

فعلى الرغم من تأكيدهم عليهم السلام  على أن القرآن يجري كمجرى الشمس والقمر، وأنه ينطبق على الأحياء كما ينطبق على الأموات[28]، إلا أنهم عمدوا إلى ربط شيعتهم بهذه الآيات التي يتذكرون من خلالها إمامهم المظلوم المهتظَم عليه السلام ؛ لكي يزدادوا تلهفاً وشوقاً لقراءة القرآن؛ فيحصلون على الثواب الذي أُعد لقارئ القرآن والمتدبر في معانيه.

 

الخامس: توظيف المظلومية ومبرِّرية الأخذ بثأره عليه السلام

إحدى النقاط المهمة والتي أضحت مثار جدل في أوساط المسلمين المعاصرين للأئمة المعصومين عليهم السلام  ـ فضلاً عن المجتمعات المعاصرة التي تردد شعارات حقوق الإنسان وغيرها من القوانين التي سنَّها القانون الوضعي ـ هو النداء بالثأر للإمام الحسين عليه السلام  في النصوص التي يُطلقها الإمام الحجة المنتظر عجل الله فرجه الشريف  حينما يتنعّم المستضعفون بحضوره بينهم، فقد أفادت بعض النصوص أنه عجل عجل الله فرجه الشريف  يأخذ بثأر الإمام الحسين عليه السلام  من أعدائه، فروي‌ عن‌ الإمام الصادق عليه السلام  أنه قال‌: «لما كان من أمر الحسين ما كان ضجّت الملائكة وقالوا: يا ربّنا، هذا الحسين صفيّكوابن بنت نبيّك. قال: فأقام الله ظلّ القائم عليه السلام  وقال: بهذا أنتقم لهذا»[29]. بل قد روي في عقاب الأعمال عن ابن الوليد، عن الصفار، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد الله  عليه السلام  قال: سمعته يقول: القائم ـ والله ـ يقتل ذراري قتلة الحسين  عليه السلام  بفعالِ آبائها[30]؛ وقد أطَّرَوا عليهم السلام  لهذه الحقيقة من خلال تفسيرهم للآيات التي حملت هذه الفكرة، كما في الرواية الواردة عن الحسن بياع الهروي، يرفعه عن أحدهما÷ في قوله: {لا عدوان إلا على الظالمين}. قال: إلّا على ذريةِ قتلةِ الحسين عليه السلام [31]، الأمر الذي أثار استغراب بعض الحضَّار والسامعين ـ بل كل مَن وصلت إليه هذه الروايات ـ ودفع بهم إلى التساؤل حول ملاءمة ذلك مع النصوص التي تنفي مؤاخذة الآخرين بذنوب وفعال غيرهم.

وقد انطلق أهل البيت عليهم السلام  من مظلومية الإمام الحسين عليه السلام ، موظفين ذلك لبيان هذه المسألة الإلهية، كما روى أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني، قال: عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن عبد السلام بن صالح الهروي، قال: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام : يا بن رسول الله، ما تقول في حديث روي عن الصادق عليه السلام : أنه قال: إذا خرج القائم عجل الله فرجه الشريف  قتل ذراري قتلة الحسين عليه السلام  بفعال آبائهم؟ فقال عليه السلام : هو كذلك. فقلت: وقول الله عز وجل: {ولا تزر وازرة وزر أُخرى}. ما معناه؟ قال: صدق الله في جميع أقواله، ولكن ذراري قتله الحسين عليه السلام  يرضون بأفعال آبائهم ويفتخرون بها؛ ومَن رضيَ شيئاً كان كمن أتاه، ولو أن رجلاً قُتل بالمشرق فرضيَ بقَتله رجلٌ في المغرب لكان الراضي عند الله عز وجل شريكَ القاتل، وإنما يقتلهم القائم عليه السلام  إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم... [32]. مع أن الإمام الصادق عليه السلام  أوضح هذه الفكرة أيضاً وذلك في روايات أُخرى يسأل فيها بعض أهل الكوفة عن قتلة الإمام الحسين عليه السلام ، قائلاً لأحدهم: تنـزل الكوفة؟ فقلت: نعم. فقال: ترون قتلة الحسين عليه السلام  بين أظهركم؟ قال: قلت: جُعلت فداك ما بقي منهم أحد. قال: فأنت ـ إذن ـ لا ترى القاتل إلا مَن قتل أو مَن وليَ القتل؟! ألم تسمع إلى قول الله: {قل قد جاءكم رسلٌ من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين}، فأيّ رسول قتل الذين كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم  بين أظهرهم، ولم يكن بينه وبين عيسى رسول، وإنما رضوا قَتْلَ أُولئك فسُمّوا قاتلين[33].

وإذا أردنا أن نطبق مضامين هذه الروايات على واقعنا المعاش وظرفنا الراهن فإننا نجد نماذج كثيرة وكمَّاً هائلاً ـ في وقتنا الحاضرـ من هؤلاء الذين يرضون بأفعال قتلة الحسين عليه السلام ، بل إنهم بصريح قولهم يُقرون بذلك أمام الملأ وعبر شبكات التواصل، فيصفون كربلاء الشهادة بأوصاف يصعب على الفرد المؤمن سماعها، ويعيبون على كل مَن يتفاعل مع مصيبة الإمام الحسين عليه السلام  كائناً مَن كان، وقد باتت هذه النماذج من الأُمور التي لا يحتاج إثباتها إلى برهنة؛ إذ ما نراه بأعيننا لا يفتقر إلى دليل.

فيتضح للقارئ السرّ والسبب الذي يُبرّر للإمام الحجة المهدي عجل الله فرجه الشريف  تنفيذ القصاص العادل في حق هؤلاء الظلمة ذرية الظالمين، من خلال توظيفهم عليهم السلام  لهذه المظلومية الأليمة في النصوص التي ذكرناها في هذه النقطة.

وفي نهاية المطاف نخرج بنتيجة مهمة: وهي أن هناك مجموعة من المسائل الدينية والعقائدية تم بيانها عن طريق ذكر الإمام الحسين عليه السلام  ومظلوميته التي يتفاعل معها كل مَن له أدنى رحمة في قلبه.

وهناك مجموعة من المسائل العقدية والدينية التي يطول الكلام فيما لو أردنا تعدادها مفصلاً، إلا أننا أسلفنا فيما سبق أن الباب مفتوح والطريق سالك أمام الباحثين والمحققين لإشباع هذا الموضوع، وعلى هذا الأساس؛ فكلنا أمل أن نجد كتاباً أو دراسة مفصلة في هذا الشأن، لإثراء الساحة العلمية.

والحمد لله رب العالمين

 

 الكاتب: الشيخ صباح عباس الساعدي

مجلة الإصلاح الحسيني – العدد التاسع

مؤسسة وراث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

________________________________________

[1] المائدة: آية27ـ 30.

[2] المسعودي، مروج الذهب، ج3، ص16. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج16، ص145. واُنظر: العاملي، جعفر مرتضى، الصحيح من سيرة النبي الأعظم: ج18، ص323.

[3] اُنظر: الدينوري، ابن قتيبة، الأخبار الطوال: ص367. واليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي: ج2، ص349.

[4] اُنظر: الخوئي، أبو القاسم، مصباح الفقاهة: ج1، ص533. وقد صدَّر كلامه بقوله: >أقول: ذكر الشيعة والسنّة من مستثنيات حرمة الغيبة تظلُّم المظلوم، وإظهار ما أصابه من الظالم، وإن كان متستراً في ظلمه إياه، كما إذا ضربه أو شتمه أو أخذ ماله أو هجم على داره في مكان لا يراهما أحد، أو لا يراهما مَن يتظلم إليه؛ فإنه يجوز للمظلوم أن يتظلم بها إلى الناسأي: آذوه وأرادوا رجمه

gate.attachment